زائر الكويت هذه الايام، في مناسبة القمّة الاسيوية، يلحظ بوضوح كم ان هذه الدولة التي كانت quot;رافعةquot; المجتمع المدني في المنطقة باتت تعاني من انفصام حاد في الشخصية قد لا تنفع معه المعالجات العادية.
دولة تتمتع بكل مقومات التطور ولا تتطور. دولة اقامت البنى التحتية لكل مجالات التتقدم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا... ولا تتقدم. دولة علمت اهل المنطقة قبل اكثر من نصف قرن مفردات الديموقراطية والحريات ولغة التخاطب وقيم المعارضة فاذا ببعض ابنائها اليوم بحاجة الى دخول مدرسة السياسة من جديد لتعلم ما كان اجداده يعلموه للآخرين، خصوصا كيف مخاطبة الكبار الكبار الذين بذلوا الغالي والرخيص من اجل الكويت والكويتيين واظهروا انهّم رجال دولة بالفعل في احلك الظروف واقساها.
من يراقب quot;الربيع العربيquot; من مغربه الى مشرقه بعين مجردة ونظرة محايدة يرى بامّ العين ان جميع المنتفضين طالبوا امس ويطالبون اليوم وسيطالبون غدا بالوصول الى ربع ما هي عليه الكويت من رخاء اقتصادي وعدالة اجتماعية وحريات عامة ومشاركة سياسية. الغريب انك تسمع في الكويت هذه الايّام من يهدد بثورة وquot;ربيع عربيquot; وانتفاضات ردا على قرارات قد لا تعجبه بالنسبة الى النظام الانتخابي او الدوائر او نسب التصويت.
باختصار الكويت من فوق غير الكويت من تحت. هنا، يستضيف الامير الشيخ صباح الاحمد وبمبادرة منه مؤتمر القمة الاول للتعاون الآسيوي لتكوين نواة منظومة تعاون اقتصادي وسياسي عملاق بمشاركة 32 دولة... وهنا تنشغل بعض الشخصيات المعارضة والتيارات السياسية (وعصبها الاساسي quot;الاخوانquot;) في تجييش الشارع واقامة ندوات ومسيرات خرقت السقف المسموح به دستوريا واعتمدت لغة بذيئة لم يألفها الكويتيون على امتداد تجربتهم.
قمة آسيوية تريد من خلالها القيادة الكويتية اعادة الدور السياسي والمالي والاقتصادي للدولة الى ما كان عليه قبل عقود بل وتوسيعه الى منطقة النمور الناهضة بكل مجالات التطوير والحداثة... وفي الوقت نفسه quot;قمةquot; الانحدار باللغة السياسية الى مستويات التصنيف والتخوين والاساءة الى الرموز تريد من خلالها بعض الجهات في المعارضة احراج القيادة خلال استضافة القمة وتكوين quot;خطوط اشتباكquot; في الشارع قد تتسع سلبياتها في الايام والاسابيع المقبلة.
المؤتمر الآسيوي في الكويت كان تجسيدا لحلم راود اميرها منذ سنوات ويقضي بتحويل بلاده الى مركز مالي وتجاري في المنطقة. زار الشيخ صباح الاحمد كل الدول الآسيوية تقريبا عندما كان رئيسا للوزراء. دخل الى المصانع . جال في القطارات. جلس مستمعا كتلميذ في ارقى المعاهد التكنولوجية. راقب عن قرب الاساليب الحديثة في بناء الجسور وحفر الانفاق واستصلاح الاراضي وزراعتها، وعاد الى الكويت بسلسلة قرارات لم تر النور بسبب الازمات السياسية المتلاحقة وتحديدا بين الحكومة ومجلس الامة التي اعاقت تمرير مشاريع التنمية وبقي quot;المركز المالي والتجاريquot; حلما كويتيا تعمل على تحقيقه بنجاح دول اخرى في المنطقة.
اقيمت بالطبع مشاريع كثيرة بين الكويت ودول آسيوية في مجال النفط والبتروكيماويات والاعمار، الا ان المؤتمر الآسيوي يهدف الى ما هو ابعد من ذلك في ظل فلسفة صباح الاحمد الدائمة الرافضة لموضوع القطبين العالميين او القطب الواحد، والداعمة دائما لفتح مجالات التعاون مع منظومات دولية اخرى قد تكون نتائجها افضل لمصلحة الشعوب لا لمصلحة الانظمة. والجديد في مؤتمر الكويت هذه المرة ان اميرها يسعى الى تأسيس منظومة آسيوية لا الى التعاون مع منظومة قائمة.
يسعى الشيخ صباح الى نقل الكويت الى حيث يجب ان تكون، اي الى مكانها الطبيعي في المنطقة بصفة كونها ذات تجربة متقدمة على كل الصعد. لا شك ان تحقيق مثل هذا الانجاز يتطلب وعيا داخليا لاهمية الدور الكويتي بدل التمسّك بالنظام الانتخابي الحالي الذي جاء باسوأ الحالات الطائفية والمناطقية والقبائلية والمذهبية واغرق البلد في متاهات التخلف بكلّ انواعه واشكاله.
لا يمكن للكويت استعادة دورها الاقليمي والدولي من دون قاعدة داخلية قوية تسمح بخروجها من حال التجاذب والمزايدة بين المتطرفين السنّة والمتطرفين الشيعة...وبين هذه العشيرة او المنطقة او تلك.
من المهمّ ان تتجاوز الكويت المرحلة الراهنة بدل السقوط في المحظور. والمحظور يتمثّل في استخدام الحياة الديموقراطية من اجل التعطيل ولا شيء آخر غير التعطيل من جهة واظهار الكويت، من جهة اخرى، وكأنها لم تشف بعد من عقدة الاحتلال العراقي الذي واجهه اهل البلد صفّا واحدا وكانوا خير معين للقيادة السياسية في حملة تجييش المجتمع الدولي من اجل خوض حرب التحرير. مثل هذا التعاون كان كلمة السرّ التي سمحت للكويت بتجاوز محنتها واستعادة تجربتها الديموقراطية القائمة على نبذ التطرّف. ما نفع الديمواقراطية والحياة البرلمانية اذا كانتا ممرّا للتطرف والمتطرفين ينفذون منه لممارسة هواياتهم المفضلة التي تختصرها كلمة التعطيل؟
ليس مفيدا لايّ كويتي ان تستمر الكويت ضحية فئات تسعى الى اجهاض ما يقوم به امير جريء ينقل الى ارض الواقع حلم استعادة الكويت دورها الرائد في المنطقة. مثل هذا الحلم الذي صار واقعا، اقلّه في الجانب الخارجي منه، لا يمكن ان يجد ترجمة له على ارض الكويت الّا عبر اعادة تنظيم الحياة السياسية بما يضمن تعاونا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بدل التناحر بينهما. فليس معقولا ان تستضيف الكويت القمة الاولى للتعاون الاسيوي وان لا يكون فيها نظام انتخابي متطوّر مفيد للحياة التشريعية وللتعاون بينها وبين السلطة التنفيذية لتنفيذ المشاريع التي يحتاج اليها البلد بدل الاعتقاد ان الشعارات الفارغة اكانت دينية او غير دينية تبني دولا عصرية.
حتى لو لم يتم التوافق على تطوير النظام الانتخابي الآن وبقيت الدوائر والاصوات كما هي الا ان مثل هذا التطوير خطوة اولى في رحلة الالف الميل التي تصبّ في القضاء على حال الانفصام الذي تعاني منه الكويت...أنّه الانفصام الذي يحاول الشيخ صباح الاحمد اخراج البلد منه.