لايسعني إلا أن استعير مصطلحات علم النفس لوصف سلوكيات مؤسسات الدولة العراقية، وأولها الحكومة العراقية التي سأسميها مجازا ً بالإنفعالية لقربها من صفات الشخص الإنفعالي. فالأخير هو ذلك الذي لايستطيع ضبط مشاعره في المواقف التي يجب أن يكون فيها حكيم، عفوي في سلوكياته عند إتخاذ تلك المواقف، هو ذلك الذي تسبق سلوكياته تفكيره ولايستطيع كتمان غضبه وفرحه، أي لايستطيع أن يلعب الدور الإجتماعي المطلوب منه لعبه. في المقابل، يوصف الشخص العقلاني، الذي يتسم بالحكمة، بإنه ذلك الذي يملك هدف في كل تصرف يفعله، ولا أقول سلوك، فالسلوك في علم النفس ناتج عن الفعل أو الحركة بدون هدف معين كالأفعال اليومية المعتادة أما التصرف فينم عن عقل يقف خلف تلك الأفعال ويوجهها بإتجاه معين.
فعندما نستعير هذه الصفات نرى بأن الحكومة العراقية وباقي مؤسسات الدولة إنفعالية في تصرفاتها وليست عقلانية. فيوم ترفض إستقبال اللاجئين السورين وبعد يومين تقبلهم وهذا لاينم عن تصرف بل سلوك عاطفي وتسرع وإنفعال. نفس الشيء مع إلغاء الحصة التموينية فهم يقولون أن دراسة الموضوع تمت خلال سنتين ولكن لم يقل لنا أحد أي مركز أبحاث أخذ على عاتقه إتمام تلك الدراسة أم هي توصيات مستشارين، وإذا كان كذلك فلماذا ينسحب رئيس الوزراء من موقفه ليزيد الحصة إلى خمسة وعشرين ألف بدل خمسة عشر، أو تطبيقها على محافظتين في البدأ، فلماذا هذا الإنقلاب على نتائج الدراسة وتوصياتها أم السيد المالكي يريد إهدار ثلاثة مليارات دولارات زيادة على المبلغ الأول من ميزانية الدولة! السؤال الأهم كيف ستضبط الحكومة العراقية عدم الفساد في توزيع الأموال المرصودة بدل الحصة التموينية وهي التي ألغت تلك الحصة لوجود الفساد فيها، وكيف ستضبط الحكومة السيطرة على الأسعار بعد أن فشل النظام السابق بكل أجهزته القمعية بالسيطرة عليه. في السياق نفسه، كيف ستتحكم الحكومة العراقية بضبط أسعار السلع وهي ترفع شعار السوق الحرة، فهل هي عودة لفلسفة الإقتصاد المركزي أم هو فعل إنفعالي عفوي نابع من حاجة آنية. على أية حال، لقد الغت الحكومة قرارها وهاهي تثبت بأن قراراتها إنفعالية وغير مدروسة بالشكل الصحيح. المشكلة هي أن نفس الطريقة تستخدم في باقي مؤسسات الدولة لمعالجة ظواهر إجتماعية وإقتصادية وسياسية إذ تتم من خلال مواقف عفوية وإنفعالية كمعالجة ظاهرة الإرهاب أو الفقر أو مشاكل مختلفة غيرها.
لقد تخلت الحكومة العراقية وباقي مؤسسات الدولة عن دورها تجاه أبناء الشعب والتي لابد أن تكون في خدمته عرفا ً ودستورا ً، فصار المواطن العراقي هو الذي يحل مشاكله بنفسه بل تعدا ذلك ليحل مشاكل الدولة نفسها أيضا ً. لقد تخلت الدولة عن توفير الكهرباء لتسلمه ذبيحة بيد أصحاب المولدات الكهربائية، لقد تخلت عن دورها في توفير الرعاية الصحية، فعلى المواطن العراقي أن يسلم جلده وجيبه لمشرط الطبيب الخاص ليكون صحيحا ً، لقد تخلت الدولة عن توفير نظام تعليمي جيد مع كفاية في الكوادر التدريسية وباقي المستلزمات من أبنية وغير ذلك، لذلك تلجأ العوائل العراقية إلى المدارس الخاصة لتضمن لأبنائها مستقبل جيد، لقد تخلت الحكومة عن توفير سكن للملايين منذ عشر سنوات خلت ليقوم المواطن نفسه بحل مشكلة الدولة من خلال السكن في العشوائيات، فهو صاحب الفضل عليها. أخيرا ً وليس آخرا ً، تريد الحكومة العراقية تسليم رقبة المواطن العراقي بيد التاجر الذي لايرحم من خلال إلغاء البطاقة التموينة بعد فشلها في بمحاربة الفساد ليقوم المواطن نفسه بحل مشكلة الفساد لحساب الدولة بعد أن يتنازل عن جزء من حصته.
من الطبيعي عندما لاتكون هناك أيدلوجيات واضحة لدى الأحزاب التي بمعضمها إسلامية تحكم بإسم الديمقراطية فستفقد الدولة حينها فلسفتها وبالتالي تفقد إستراتيجيتها العامة السياسية والإقتصادية والإجتماعية حيث لاتعلم الدولة بأي إتجاه تسير، وتجد هناك تضارب كبير بين مؤسساتها وقوانينها وسلوكياتها. فيحدث أن تقول شيء وتغيره في اليوم التالي أو تفعل مؤسسة أمرا ً معينا ً ترفض تطبيقه مؤسسة أخرى لأنه يتعارض مع لوائحها وقوانينها. فالدولة العراقية بمؤسساتها لاتملك فلسفة محددة وواضحة تحدد أهداف وجود تلك الدولة ومجتمعها وبالتالي لاتوجد هناك إستراتيجية والنتيجة هي اللجوء إلى الفعل الإنفعالي بدل الفعل الحكيم المخطط له مسبقا ً. عندما يغيب الهدف يكون الإنفعال هو الحاضر، فالعقل هو الذي يبني المؤسسات ويحدد أهدافها، أما العاطفة فتلغي المؤسسة لتحل محلها العلاقات الشخصية والواسطات والمحسوبيات. كان الأجدر بالحكومة العراقية أن تنشط نظام الضمان الإجتماعي بدل إبدال الحصة التموينية بالمال. فنظام الضمان الإجتماعي هو المؤسسة الوحيدة التي يمكن أن تكون فاعلة في معالجة الفقر والبطالة في دولة تحكمها فلسفة الديمقراطية. أما الحصة التموينية والأموال الممنوحة فتندرج ضمن إطار الدولة الرعوية المانحة، وهي بالتأكيد الدولة الشمولية أو على الأقل الدكتاتورية.
لايمكن أن أوصف حال الدولة العراقية بجميع مؤسساتها إلا إنها مصابة بمرض التنافر (Cognitive Dissonance) الذي يجعل من الكائن متضارب في أفكاره وسلوكه، فيحاول جاهدا ً تنسيق أفعاله مع أفكاره فهو يعيش حالة إضطراب نفسي وعدم مصالحة مع الذات. ومن هنا تأتي الحيرة في معالجة هذا المريض. هل نحلل أحلامه على طريقة التحليل النفسي الفرويدية، وكل أحلام سياسيه طوباوية بدولة إسلامية ومجتمع إسلامي في خيالهم، أما الديمقراطية فهي وسيلة للوصول لهذا الهدف، فهي لاتنسجم مع نسق التفكير الذي تعودوا عليه وتربوا عليه في مؤسساتهم الدينية ولكنهم يرفعونها شعارا. فالغاية تبرر الوسيلة. أم نستخدم العلاج السلوكي في علم النفس بتحفيز تلك المؤسسات، ولكن، بماذا نحفزها وقد أمتلأت جيوب سياسيها ومسؤوليها بالمال، وبماذا نعاقبها وهي التي تضع القوانين في جيبها الخلفي. لم يبق إلا إستعمال العلاج الدوائي لعلاج أمراض السياسيين أو إستخدام الكلام والكتابة على طريقة علم النفس الإدراكي، عله يكون نافعا ً على المدى البعيد.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات