على خلفية الأزمة السياسية الأخيرة التي عصفت بالعراق ولا تزال، أصبح الفتور، لأول مرّة، هو سيد الموقف في العلاقة بين الرئيسين، مسعود بارزاني مسعود رئيس إقليم كردستان، وجلال طالباني رئيس العراق، منذ توقيعهما على quot;الإتفاقية الإستراتيجيةquot; في21 يناير 2006. وهو الأمر الذي حدى ببعض القائمين على شئون حزبيهما إلى الدخول أكثر من مرّة، في مناكفات ومناوشات إعلامية هنا وهناك. إلا أنّ ترك طالباني لبغداد مؤخراً واختياره لمعقله السليمانية مقرّا لرئاسته، كأول ردة فعل له على سياسة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، لquot;عدم إيفائه بوعوده، خصوصاً فيما يتعلق بحلّ قيادة عمليات دجلةquot; بحسب تعبيره، قد أعاد بعض الحرارة إلى العلاقة بينه وبين شريكه بارزاني.
من المعروف أنّ أول الفتور في العلاقة كان قد بدأ منذ أشهر، وذلك على خلفية الموقف من أزمة الحكومة العراقية، وسحب الثقة بالتالي من رئيسها نوري المالكي. الإختلاف ربما يكون في ظاهره خلافاً في العراق وعلى العراق، أو خلافاً بين العراقيين أنفسهم على شكل الحكم في العراق نفسه، لكنه في باطنه خلاف أكبر وأكثر من العراق والعراقيين جميعاً. الخلاف الأخير بين quot;العراق الشيعيquot; بزعامة المالكي من جهة، وquot;العراق السنيquot; بزعامة القائمة العراقية وquot;العراق الكرديquot;، أي كردستان العراق بزعامة مسعود بارزاني من جهة أخرى، هو في أساسه أو لنقل في جزئه الأكبر خلاف في الموقف من الصراع الإقليمي الشيعي السني في المنطقة، الذي نشهد منذ أكثر من 20 شهراً أعنف فصوله في سوريا، لكنه لن ينتهي فيها، على ما يبدو، لا مع إسقاط النظام في سوريا ولا بعده.
الأزمة السياسية الأخيرة التي تكاد تضرب بالعملية السياسية في العراق برمتها، هي بالأساس أزمة إقليمية بإمتياز، سببها الأساسي كان ولا يزال الموقف من الثورة السورية وما نتج عن هذه الأخيرة من تداعيات وإفرازات واستقطابات إقليمية ودولية. ما يعني أن الحرب الداخلية في سوريا وعليها إقليمياً ودولياً، يشكّل أساساً ومنطلقاً للأزمة سواء بين quot;العراق السنيquot; والعراق الشيعيquot; في المركز، أو بين عراق المركز بشقه quot;الشيعيquot; وكردستانه في الإقليم الكردي.
عليه ففي الوقت الذي انحاز بارزاني ولا يزال في تحالفاته الإقليمية الجديدة، والتي بدأت تتشكل على خلفية اشتعال الأزمة السورية، إلى quot;الحلف السنيquot; في المنطقة (تركيا + quot;العراق السنيquot; + السعودية + قطر ودول الخليج الأخرى + quot;سوريا السنيةquot;)، انحاز طالباني إلى quot;الحلف الشيعيquot; (إيران + quot;العراق الشيعيquot; + النظام السوري ذي التركيبة العلوية + حزب اللهquot;. فعلى العكس من موقف بارزاني المتناغم مع الموقف التركي، والذي فيه من التدخل ما يكفي في شئون الثورة السورية عبر نافذتها الكردية، وذلك من خلال إشرافه المباشر على صناعة quot;المجالس والهيئات والقياداتquot; لأكراد(ه) السوريين في هولير، نجد موقف طالباني متماهياً قليلاً أو كثيراً مع موقف الحكومة العراقية، ولا يزال ينظر إلى نظام الأسد بعيون إيرانية، أو لنقل بعيون quot;شيعية عراقيةquot;.
الخلاف على سوريا، الذي يشكّل الآن أساس الخلاف بين الحلفين الإقليميين، أدى بالنتيجة على ما يبدو إلى بروز خلاف موازٍ بين الشريكين بارزاني وطالباني أيضاً، فضلاً عن أنه يشكلّ أساس الخلاف بين كلّ الأفرقاء العراقيين، شيعةً وسنة.
تاريخياً كان طالباني ولا يزال صديق الإيرانيين اللدود. فلولا إيران التي دعمت طالباني أثناء حربه في الفترة ما بين 1994 و 1996 ضد حزب بارزاني الذي استنجد بدوره بقوات النظام العراقي، لكان حزبه الآن في خبر كان. وراء علاقة طالباني مع إيران تكمن بالطبع أسباب أخرى جيوسياسية، حيث تقع quot;كردستانهquot; (السليمانية وتوابعها) الواقعة تحت سيطرة حزب طالباني على الحدود مع إيران التي تربطها مع quot;كردستان السليمانيةquot; منافذ حدودية وعلاقات تجارية متبادلة، وذلك بعكس quot;كردستان بارزانيquot; (هولير + دهوك) الواقعة على الحدود مع تركيا، والتي يربطها مع بارزاني علاقات إقتصادية وتجارية وثقافية متينة، يمكن وصفها بquot;شبه استراتيجيةquot;. ثم لا ننسى أن ورقة النفط، التي هي واحدة من أبرز النقاط الخلافية بين الإقليم والمركز، لا يمكن أن يكتب لها النجاح في كردستان، كورقة ضاغطة على بغداد، بدون التأسيس لهكذا علاقة مع تركيا، الممر الوحيد للنفط الكردي إلى أسواق العالم.
فشل طالباني في إقناع بارزاني خلال أكثر من لقاءٍ جمعهما من قبل، لحضور اجتماعٍ مع المالكي ارتُقب في بغداد أكثر من مرّة، كان فشلاً متوقعاً بالطبع، لأسباب تعود بالدرجة الأولى إلى موقفهما من مستقبل تحالفهما مع quot;العراق الشيعيquot; في بغداد أولاً، وممّا يجري في سوريا ثانياً. ففي الوقت الذي نرى فيه بارزاني يقترب شيئاً فشيئاً من quot;الحلف السنيquot; وعلى رأسه تركيا، ووصلت علاقته مع المالكي إلى ما يشبه القطيعة، حيث يكاد لا يمرّ يوم من دون تصريحات نارية وتصريحات مضادة تطلق من الجهتين، رأينا طالباني المقرّب من quot;الحلف الشيعيquot;، محافظاً على علاقته الودّية مع المالكي، إلى أن وصل به الخلاف مع هذا الأخير إلى اتخاذ السليمانية مقرّا لرئاسته، بدلاً من بغداد. ثم لا ننسى أنّ طالباني لا يزال ينظر بعكس بارزاني إلى الثورة السورية نظرةٌ لا تختلف في الكثير من تفاصيلها عن نظرة المالكي وفريقه الشيعي إليها.
هناك البعض من المنظرين في الشأن الكردي يرى في إنحياز بارزاني إلى الثورة السورية quot;انحيازاً ثورياً وقومياًquot; إلى أكراد(ه) السوريين الثائرين مع أخوانهم في الوطن السوري ضد نظامهم، منذ أكثر من 20 شهراً. وهو الأمر الذي يجعل من بارزاني، quot;بطلاً قومياًquot; في عيون أكراد(ه)، بعكس طالباني الذي يصفه هؤلاء بquot;الخائنquot; لقومه وقضيته، بإعتبار أن القضية الكردية، بحسب هؤلاء قضية واحدة، لا فكاك بين أكرادها من الشمال إلى الجنوب، والشرق إلى الغرب.
لكنّ القضية، في حقيقتها، بشقيها الحاضر والغائب، ليست كذلك.
القضية، ههنا، لا تكمن في quot;حبّquot; هذا لأكراد سوريا، ولا في quot;كرهquot; ذاك لهم. وإنما هي قضية مصالح حزبية، آيديولوجية، quot;تحت قوميةquot;، تقوم على حسابات سياسية إقليمية، تجري في المنطقة، والتي ليس للأكراد إلا أن يكونوا جزءاً منها.
ذات الشيء يمكن سحبه على دخول حزب quot;العمال الكردستانيquot;، عبر فرعه السوري حزب quot;الإتحاد الإتحاد الديمقراطيquot;، على خط الأزمة السورية، كطرف كردي أساسي قوي على الأرض. أساس هذا التدخل quot;الكردي التركيquot; يقوم على قاعدة quot;عدو عدوي صديقيquot;، بمعنى أنّ تدخل تركيا في الشأن السوري، وإعتبارها لأزمة الداخل السوري، أزمةً في داخلها، كما صرّح بذلك أكثر من مسؤول تركي، ودعمها المباشر لبعض جماعات المعارضة السورية وعلى رأسها quot;جماعة الأخوان المسلمين السوريةquot; وأخواتها من المعارضات السورية الأخرى، هو الذي يشكلّ الأرضية الأساسية لتدخل quot;العمال الكردستانيquot; في الأزمة السورية. فمثلما يسمح الآخرون وعلى رأسهم تركيا لأنفسهم، بالتدخل المباشر في شئون الثورة السورية، لإعتبارات استراتيجية وجيوسياسية ذات علاقة مباشرة بالإستقطابات الإقليمية (الطائفية بالدرجة الأساس)، لكأنها أزمتهم، كذلك يسمح الأكراد لأنفسهم، شمالاً (أكراد أوجلان) وجنوباً (أكراد بارزاني)، بمختلف تياراتهم السياسية التدخل في الأزمة ذاتها، للإعتبارات ذاتها، خصوصاً فيما يتعلق بالعمق الكردستاني والإستراتيجي للقضية الكردية في سوريا.
لهذا، وبإعتبار أن القضية الكردية تعتبر، قليلاً أو كثيراً، بحسب المنطق الكردي القائم على إعتبار كردستان بجهاتها الأربعة quot;أرضاً واحدة لشعب واحد بتاريخ واحد وثقافة واحدةquot;، أصبح الأكراد، بمختلف جهاتهم، سواء أكراد الشمال بقيادة العمال الكردستاني، أو أكراد الجنوب بقيادة بارزاني وطالباني جزءاً من اللعبة السياسية الإقليمية في المنطقة.
من هنا، نجد بالتوازي مع الصراع الإقليمي والدولي على سوريا، صراعاً كردياًـ كردياً على أكراد سوريا وquot;كردستانquot;(هم)، بين quot;أكراد بارزانيquot; في العراق من جهة وquot;أكراد أوجلانquot; في تركيا من جهة أحرى. وهو الأمر الذي أدى بالنتيجة إلى انقسام الأكراد السوريين أنفسهم، فيما بينهم إلى quot;أوجلانيينquot; وquot;بارزانيينquot;، حيث هناك لكلّ طرف من هذين الطرفين المتصارعين، على الأرض، مجلس يمثله، quot;مجلس الشعب لغربي كردستانquot; بقيادة حزب quot;الإتحاد الديمقراطيquot;، لأكراد quot;المرجعية الأوجلانيةquot;، وquot;المجلس الوطني الكرديquot;، بقيادة مشتركة تضم 16 حزباً، لأكراد quot;المرجعية البارزانيةquot;. والأخطر في الأمر هو أن يتطور الصراع بين أكراد المرجعيتين من صراع سياسي آيديولوجي بين مجلسين سياسيين، إلى صراع عسكري مسلّح بين الطرفين.
أما جوهر الخلاف بين المرجعيتين في الموقف من القضية الكردية في سوريا، فيكمن في أساسه، في الموقف من العلاقة مع تركيا واستراتيجيتها تجاه الأزمة السورية بشكل عام، والقضية الكردية بإعتبارها جزءاً من القضية السورية، بشكلٍ خاص.
هكذا أصبحت القضية الكردية في سوريا، بحكم تعدد مرجعياتها والصراع الكردي الكردي عليها، لكأنها قضية quot;أكراد تركياquot; بقيادة العمال الكردستاني، وquot;أكراد العراقquot; بقيادة بارزاني، قبل أن تكون قضية الأكراد السوريين أنفسهم.
تأسيساً على كلّ ما سبق، يمكن القول بأنّ كلّ ما يجري من صراعٍ في سوريا وعليها، بين quot;أصدقاءquot; أو quot;أشقاءquot; السوريين من جهة و أعدائهم من جهة أخرى، هو في حقيقته صراع مصالح سياسية، أيديولوجية، طائفية، قبل كلّ شيء.
كذلك الأمر هو بالنسبة للصراع الكردي الكردي على الأكراد السوريين وكردستانهم. فحضور بارزاني في quot;دعمهquot; الشكلي جداً حتى الآن، والذي يمكن اختزاله في بعض لقاءات مع أمراء الطوائف الحزبية الكردية للوصاية عليهم، هو كغياب طالباني عن هذا الدعم، مع فارق وحيد، هو أن الأول يريد أن يكون له موطئ قدم بين أكراد سوريا، لحسابات إقليمية، والتدخل في شأنهم وقت يشاء، كما يشاء، فيما الثاني ينأى بنفسه عن ذلك، لأسباب لها علاقة بضعف نفوذه بين الأكراد السوريين أولاً، وبقوة علاقاته مع نظام الأسدين الأب والإبن ومن خلفهما إيران ثانياً.
لو كانت القضية بالفعل هي قضية انحياز الكردي لأخيه الكردي، كواجب قومي quot;ضروريquot; تجاه كردستان وأكرادها، أينما وأنى كانوا، لماذا لم نسمع، إذن، من لدن أهل هذه المرجعيات الكردية، بمثل هذا quot;الولع القوميquot; بالقضية الكردية السورية، في انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004؟
الإنحياز الصريح لquot;العراق الشيعيquot; بزعامة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، في الأزمة السورية، إلى حلف إيران، وضع العملية السياسية في العراق، التي هي الآن على المحك، أمام امتحان صعب، ما يعني وضع النخب والتيارات والأحزاب السياسية العراقية أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الوقوف مع quot;عراق المالكيquot; المتحالف مع إيران، أو مع quot;العراق السنيquot; المضاد، المتحالف مع أنقرة والرياض والدوحة.
الأزمة العراقية الراهنة، هي كنتيجة للأزمة السورية، أزمة إقليمية بإمتياز، لا بل دولية، تفجّرت بملامح عراقية. أيّ هي أزمة صراع بين quot;الهلال الشيعيquot; وquot;القمر السنيquot;، التي نشهد أعنف فصولها الدموية، الآن، في سوريا. يبدو أنّ هولير التي نجحت عراقياً، حتى الآن، في النأي بنفسها عن الصراع الشيعي السني، وانتصرت في كلّ تحالفاتها مع بغداد، لقوميتها ضد طائفتها، لم يعد بمقدورها، بحكم التجاذب الطائفي الهائل، الوقوف موقف الحياد عمّا يجري في المنطقة، من تجاذبات سياسية واستقطابات طائفية، سيّما وأنّ حليفها الشيعي الإستراتيجي في بغداد، ترك الكثير من الملفات عالقةً مؤجلةّ إلى أجل غير مسمى، كالبيشمركه والنفط والميزانية والمادة 140. يبدو أنّ بارزاني (بعكس طالباني) المتحالف للآن بقلقٍ مع الشيعة في بغداد، ليس مستعداً أن يدفع فاتورة رئيس الوزراء العراقي وحلفائه الإيرانيين في دمشق، من دون مقابل، وهو ما لن يفعله المالكي، كما صرّح وهددّ أكثر من مرّة.
الأزمة في العراق الآن، هي أزمة إقليمية بالدرجة الأولى، تكمن جذورها في الصراع بين تركيا وإيران ومن وراءهما على المنطقة، قبل أن تكون أزمة داخلية، عراقية عراقية، أو عربية كردية، كما يريد أن يصورها أهل السياسة في كلّ من بغداد وهولير.
لعل زيارة وزرير الخارجية التركية أحمد داوو أوغلو إلى كركوك في أغسطس الماضي عبر بوابة كردستان، وسط حماية كردية مشددة، وبدون موافقة بغداد التي اعتبرت الأمر quot;خرقاً للأعراف الديبلوماسية وتدخلاً سافراً في شئون العراق واستهانة بسيادتهquot;، كانت الخطوة التركية الأكثر استعراضية للعب في الملعب العراقي، مع عراقٍ ضد عراق آخر، ومع هولير ضد بغداد.
أزمة العراقيين، الآن، هي في جوهرها أزمة صراع قديم جديد بين جيرانها، أو أزمة صراع دائر بين حلفين في المنطقة، ليس للعراقيين بكلّ مكوناتهم، إلا أن يكونوا جزءاً منها، أو طرفاً فيها.
الأزمة الراهنة بين بغداد وهولير، هذه المرّة، ليست كسابقاتها، أزمةً سهلة العبور، لأنها بإختصار أزمة quot;عابرة للحدودquot;.
تأسيساً على كلّ ما سبق، يمكن القول بأنّ العلاقة بين العراق وكردستانه، التي سارت حتى الآن على سنة quot;الوصاية الأميركيةquot; وquot;رسلهاquot;، باتت تهددها نار صراعات واستقطابات وتوزانات داخلية (كردية) وإقليمية كثيرة، لن تكون عليها، من الآن فصاعداً، برداً وسلاماً.
الواضح من تداعيات الأزمة السورية على الجيران، ومن لعبة المصالح والإستقطابات والتجاذبات الإقليمية من حولها، هو أنّ حكومة المالكي قد تحوّلت بحكم دعمها المباشر وغير المباشر، السريّ حيناً والعلني أحياناً أخرى، إلى طرف أساسي في الصراع على سوريا، ولاعباً رئيسياً إلى جانب إيران في اللعبة الإقليمية.
قد يكون هناك أكثر من مؤشر إقليمي ودولي على أنّ الرهان على المالكي وحكومته، اصبح رهاناً خاسراً، خصوصاً بعد وضع الغرب للمالكي في سلة نظامي البعث في دمشق وولاية الفقيه في طهران.
لكنّ السؤال الذي يقفز بنفسه ههنا، هو:
ما الذي يضمن أن يكون رهان الأكراد في كردستان العراق على الحصان التركي رهاناً رابحاً؟
ما الذي يضمن ألاّ تتحول كردستان في القادم من تحالفها مع الأتراك إلى quot;مؤخرة تركيةquot; تحت الطلب؟
ما الذي يضمن ألا تتحول كردستان العراق إلى quot;قربان تحت الطلبquot; على أقرب مذبح تركي؟
التعليقات