سلبيات الواقع التركي التي عمقتها السياسات الخاطئة لحزب العدالة والتنمية وما رافقها من هزات مجتمعية عنيفة القت بظلالها على واقع تفاعل الاتراك مع تلك السياسات، تتسمُ بانها غالبا ما تُغيب عن الاذهان العربية وغير العربية في الشرق الاوسط وبطريقة قد تقود البعض الى الظن بطريقة مغلوطة بأن تركيا فعلا بلد خالٍ من الازمات وبأن quot; الخليفة quot; اردوغان خير نموذج للتطبيق في ادارة مؤسسات الدولة في هذه المنطقة.
نحن كأمم وشعوب تحيا في هذا النطاق الجغرافي عادةً ما نفوت على انفسنا كثير من الظاهرات الايجابية التي من شأنها ان تتحول الى ومضات مشرقة لمستقبلنا الحقيقي الذي نتمناه. وقد يأتي كثير من تلك الومضات من دول الجوار غير العربية quot; ايران وتركيا quot; وبالذات عن طريق رد شعوبها على اختلالات السياسة فيها. فعلى سبيل المثال نجد بأن حركة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها الجامعات الايرانية ضد اعادة انتخاب احمدي نجاد، كانت بوابة الدخول الى حركات مشابهة في العديد من الدول العربية. وقد تصبح ذات الحركة الاحتجاجية في تركيا مُدخلا لتطورات مهمة في حياة نخب وطلبة هذه الامم والشعوب في المستقبل، خاصة وانها كانت نقطة انعطاف مهمة في علاقة الفرد بالسلطة في هاتين الدولتين.

شهدت الايام الماضية في تركيا مثل هذه الحركة الاحتجاجية في واحدٍ من مراجل الفكر والمعرفة التي تغلي بحب التحرر الفكري، الذي لا يمكن الوصول اليه الا عبر وجود نظام سياسي عادل بدأت تركيا بالافتقاد اليه. اذ قام العديد من طلبة جامعة الشرق الاوسط التكنولوجية بالعمل على تنظيم تظاهرات غاضبة ضد اردوغان الذي قام بتاريخ 18 ديسمبر/ كانون الاول بزيارة الى هذه الجامعة للاحتفال باحدى النتاجات العلمية التي اثمرت عنها جهود طلبة واساتذة هذه الجامعة. حيث كان العديد من الاساتذة هناك يقفون وراء تسليط الضوء على السياسات الخاطئة لاردوغان وبالطريقة التي دفعت الطلبة باتجاه هذا السلوك الاحتجاجي. وقد جاء رد احدهم عن السبب الكامن وراء هذا التوجه لدى هذه النخبة بالقول quot; من اجل ان يتحقق مزيد من التقدم للمجتمع، لابد من اشراك طلاب الجامعات في التعليم، البحث العلمي والمسؤوليات االمجتمعية quot;، في حين ادت سياسات اردوغان وتوجهات حزبه الحاكم الى خنق هذه المُقدمات الاساسية للتقدم في الحياة الجمعية للاتراك عموماً.

اردوغان من جانبه استشاط غضباً من هذه الحركة غير المتوقعة منتقدا بحدة الاساتذة والطلبة الذين اشرفوا على تنظيمها ضده قائلا في رده عليها quot; ياله من عار !، انه عار على الاساتذة الذين كانوا يقفون وراء دفع هؤلاء الطلبة للقيام بمثل هذا النوع من الاعمال. على الاساتذة ان يعملوا على تعليم طلبتهم كيف يكونوا محترمين، لقد كنا من قبل طلبة في يوم ما لكننا لم نلجأ ابدا الى العنف الذي مارسه هؤلاء الطلبة عند قيامهم بحرق بعض الاطارات ورميهم للحجارة quot;. وقد حاول اردوغان بذلك العمل على لي عنق الحقيقة كعادته عبر القاء الاتهامات على من مارس العمل الاحتجاجي وفقا لتلك الكلمات. في حين تشير التقارير القليلة التي تتبعت الحادث الى ان البوليس التركي هو من بدأ باستخدام العنف ضد المحتجين، مما دفعهم الى الرد بالمثل. لذا أكد البعض بان تصريحات اردوغان جاءت في اساسها لاضفاء شيء من الشرعية على ردة الفعل العنيفة التي قامت بها القوات الحكومية من خلال التلميح الى فكرة ان الطلبة هم من قاموا اولا باثارة قوات الشرطة للقيام بهذا العمل.

تخوف اردوغان من ان يكون هنالك صوت معارضة قوية في الداخل التركي للسياسات التي يمارسها في الداخل والخارج وبالطريقة التي بدأت تضرب رؤية اتاتور السابقة للسلام بالصميم، هي التي قادته ايضا الى التوجس من الدور الذي تقوم به بعض وسائل الاعلام التركية التي تتبع مثل هذه الاحتجاجات وتوصل اخبارها الى خارج تركيا. وهو مايفسر قيام اردوغان على نحو متزامن بتفعيل نقده لهذه الوسائل التي يتخوف من دورها في استنهاض همم الشعب التركي ضده، حيث قال في رسالته المليئة بالتهديد اليها quot; لدينا مشكلة حقيقية مع الاعلام quot; التركي quot;، فدوره الاساس يجب ان يكون نقل الاشياء الجيدة الى شعبي التركي، وهذا هو ما اريده... quot;. وهي كلمات تكشف عن العقلية التي يؤمن بها هذا الشخص في ادارة البلاد وفي الاطاحة باي رؤية ناقدة لتوجهاته ومغامراته التي ستُدخل تركيا يوماً ما الى مرحلة من الفوضى والانهيار الحتمي.

الملاحظة المهمة في هذه الحركة الاحتجاجية انها لم ترضخ لاسلوب التهديد القمعي الذي تحاول حكومة اردوغان ممارسته بحق ابنائها وبناتها، لذا بدأت بتاريخ 28 ديسمبر/ كانون الاول تحركات اخرى لقرابة 3000 طالب من جامعة الشرق الاوسط التكنولوجية رافقها عملية تضامن من قبل جامعات تركية اخرى في تأييدها لمطالب الطلبة بالوقوف ضد العنف الذي مارسته الحكومة ضد الطلبة الاتراك.

ان حركة الاحتجاج التي شهدتها الجامعات التركية في الايام الاخيرة من عام 2012، تعد احد المؤشرات المهمة لحالة تضييق الخناق التي تمارسها حكومة حزب العدالة والتنمية على الأوساط الفكرية والاكاديمية في هذا البلد، وهي اوساط تنشد التقدم واضفاء مزيد من الحرية الفكرية لتحقيق الُرقي الذي يطمح له الشعب التركي. لذا فمن غير المُستبعد ان يكون العام الجديد مُثقل بالعديد من التحديات التي يبدوا بأن سُحُبها قد بدأت تتجمع في سماء الوسط السياسي التركي وتهدد باختيار طريق من بين اثنين، اما الاذعان لتسلط اردوغان او التحرر من قبضته التي يريد احكامها على مؤسسات انتاج الثقافة التركية. لذا يُعتبر دخول طلبة الجامعات التركية واساتذتهم الى ميدان العمل السياسي بهذه الطريقة من بين المؤشرات المهمة لاثبات هذا الافتراض. وهي حالة دراسية جيدة للتذكير بماضي بعض الدول التي دخلت فيها المؤسسات الاكاديمية على خط السياسة ولم تتركه حكراً على بعض الاشخاص للتلاعب بمصير بلادها، ولتؤسس بذلك لثورة قادمة تغلي تحت غطاء التفاعلات والتطورات الجارية في اكثر من مكان. وللتأكيد نشير هنا لى مقولة غونتر غراس في هذا الصدد التي اكدت بأنه quot; ليس من قبيل المصادفة أن تعرف جامعة برلين الحرة اولى الحركات الاحتجاجية القوية في المانيا خلال الستينيات من القرن الماضي، بشكل عام كان الطلبة لا يهتمون بالسياسة... الا ان مشاركتهم تلك فيما بعد اظهرت نتائج ملموسة في بعض التدخلات وبالذات منها باتجاه اصلاح نظام التعليم العالي هناك quot;. وهو ما سيحصل حتماً في تركيا، لكن بدفعة اقوى تتجاوز نظام التعليم نحو المطالبة باصلاح مجمل المنظومة السياسية في البلاد.

لعل هذه التجربة تعطينا نحن في الشرق الاوسط نموذجا جديدا يُحتذى به في ممارسة المعارضة السياسية والفكرية للسلطة وبكل تجلياتها، كونها تُغيب الشعار الطائفي او القومي بل وحتى الايديولوجي، لتعمل بالمقابل على الاعلاء من هم الامة التركية بشكل عام على بقية الهموم والتحديات الفرعية التي تفرضها رؤية اردوغان للسياسة بكل ابعادها. وهي تجربة نفتقر الى فلسفتها في دولنا حيث اصبحت الشعارات الطائفية وما يقطر من معانيها من ارهاب وحراب وسيوف، بمثابة دعوة للفوضى اكثر مما هي رغبة في تغيير مسار السياسة التي تمارسها السلطة.


كاتب واكاديمي عراقي
[email protected]