كنت قد انهيت الحديث السابق بالسطور التالية : مصر اليوم هي درس وعبرة لكل السوريين ، اذ ان المصريين هم على ابواب حرب اهلية بسبب عدم الاتفاق على مسودة دستور مسبقا في الوقت المناسب.
هذا التشظي والاستقطاب لشعب مصر لم يحدث في تلك الايام العصيبة اثناء الثورة ضد نظام مبارك الاستبدادي.
التجربة المصرية الحالية اثبتت للجميع ان مجرد الذهاب الى صناديق الاقتراع لا تحل المشاكل بل تعقدها في غياب التوافق على دستور يشعر فيه كل مواطن انه يجد فيه نفسه.quot;
مالعمل اذا؟
لاجل انقاذ المستقبل السوري لا بد من التوافق على مسودة دستور منذ الآن وباسرع وقت وليس بعد سقوط النظام. من الناحية العملية والواقعية يمكن البدء باعداد ثلاثة مسودات او اكثر وذلك بناءً على التوجهات والمحاور والائتلافات السياسية السائدة في سوريا وهي :
ــ مسودة علمانية ليبرالية.
ــ مسودة لاعلمانية اي اخوانية يعتمد الاسلام كمصدر وحيد للتشريع.
ــ مسودة يعدها الكرد وباقي الاقليات.
كما يمكن التعاون بين فصيل وآخر مثلا الليبراليون والاقليات معا.
بعد الانتهاء من كتابة تلك المسودات يتم فرز كل المواد التوافقية في مسودة واحدة اي مسودة الاجماع وبعدها تبدأ النقاشات حول مواد الاختلاف والوصول الى الحد الممكن للاجماع على مسودة واحدة ترضي الجميع وهو امر صعب.
اذا استمر عدم التوافق على بعض المواد خارج مسودة الاجماع عندها يمكن النظر فيها بعد سقوط النظام.
المواد التي ستكون موضوع الخلافات الرئيسية معروفة وهي :
ــ دولة علمانية او دولة اساسها الاسلام والشريعة.
ــ دولة مركزية او لامركزية وهذه الاخيرة لها انماط مختلفة.
ــ هل سيكون الفرد اهم من الدولة وحريته مقدسة ام ان الدولة مقدسة وسيظل الفردعبيدا في خدمة الدولة؟
ــ هل سيتم الانتماء الى المجتمع الدولي الحضاري بما فيه المعاهدات الدولية لاسيما في مجال حقوق الانسان والمحاكم الدولية وتطبيق قراراتها واعطاء المواطن الحق في اقامة الدعاوى الفردية ضد الحكومة والدولة في المحاكم الدولية؟.
مثل هذه المسودات الدستورية يمكن العمل عليها من قبل معارضات الخارج حيث لديهم فضاء زمني واسع وكذلك الاستفادة من تجارب الدول التي يتواجدون فيها ، ثم ان معارضات الداخل الوطنية ليس لديهم وقت وظروفهم غير مناسبة بسبب المعارك واجواء الحرب.
الدساتير في الانظمة الديمقراطية هدفها الاساسي هو توسيع مجال الحريات للفرد والمجتمع وحمايتهم من الدولة والحكومة وفي نفس الوقت صيانة تلك الحريات وحمايتها وكذلك حماية الاقليات من الاكثرية.
الدساتير في منطقة الشرق الاوسط بعيدة كل البعد عن روح واهداف الدساتير الحضارية والسبب هو قداسة الدولة والاستهتار بالفرد وانسانيته ولذلك نجدها مليئة بالممنوعات بدلا من ترسيخ وتوسيع مجال الحريات.
ليس هناك مجال حتى لمجرد اجراء مقارنة بين العالم الحر والعالم المتخلف. تقدم وتخلف الشعوب يمكن معرفتها بالقاء نظرة على دساتيرها. الشعوب المتخلفة لا تثق بافرادها.
الانسان عندنا عبد للدولة وعندهم الدولة موجودة لاجل الانسان الفرد. الدول ليست اصنام لتعبدها الشعوب.
الدستور يتم صياغته من قبل السياسيين وليس من قبل الحقوقيين ورجال القانون كما يظن الكثيرون ويختصر عمل الحقوقيين في تلافي التناقض بين مواد الدستور كعمل بيروقراطي وتقني.
تركيا تعمل الآن على صياغة دستور جديد من قبل رجال السياسة. هيئة الصياغة تتألف من 12 برلمانيا ينتمون الى اربعة احزاب ممثلة في البرلمان حيث لكل حزب اربعة اعضاء بالرغم من ان حزب العدالة والتنمية له 225 نائب والحزب الجمهوري حوالى 100 والحزب القومي العنصري التركي حوالى 70 والحزب الكردي حزب السلم والديمقراطية 36 نائب. لكل حزب حق النقض على اية مادة ولا يمكن تمريرها الا بالاجماع وتترك مواد الخلاف للمناقشة لاحقا بعد الاتفاق على المواد التوافقية.
اقدام تركيا على هذه الخطوة هو ان اي دستور لا يمكن ان ينجح في ادارة الدولة دون التوافق بين كل اطياف المجتمع وذلك بعد الفشل الذريع لدستور 1961 ودستور 1982 اي دستور افرن الانقلابي والمعمول به حتى الآن وكلا الدستورين صاغه فطاحل الحقوقيين من اساتذة كليات الحقوق بل اشترك فيها مشاهير الحقوقيين الاجانب من الاوربيين ولهذا تُرك الامر للسياسيين.
العقبة الكأداء امام الوصول الى دستور توافقي في تركيا هي القضية الكردية وهوية الدولة التي ستصبح quot; مواطني تركيا quot; بدلا من quot; الشعب التركي quot;. في الواقع تم الاتفاق على هوية الدولة ونقاط الخلاف تتمحور الآن حول الشكل الذي ستدار فيه المناطق الكردية من قبل الشعب الكردي والذي هو السبب في الحرب الكردية التركية منذ ثلاثين عاما بالاضافة الى عقبة العلمانية وتعريفاتها وتفسيراتها والانتقال الى النظام الرئاسي بدلا من النظام البرلماني الحالي وهو طموح يسعى اليه السيد رجب طيب اردوغان رئيس الحكومة ومن الصعب جدا نجاحه في ذلك.
اذن زيادة الاصوات في صناديق الاقتراع لا يعني الحق في التفرد في صياغة دستور ما ، فالسيد اردوغان حصل على اكثر من 50 بالمئة من الاصوات ولكنه يعلم جيدا ان اي انفراد في فرض دستور سوف يعني تفكك البلاد. صناديق الاقتراع هي لاجل تبادل السلطة بين القوى السياسية وليس الاستيلاء على ارادة وحرية الشعوب.
المأساة هي اننا نعيش quot; امية سياسية quot; وفكرية في شرقنا قل نظيرها في العالم.لازال الانسان عندنا رقما في القطيع وكل ما تفتقت عنه ادمغة السياسيين في المعارضات السورية هو quot; صناديق الاقتراع quot; بعد سقوط النظام. صندوق الاقتراع في مصر تحول الى quot; صندوق الدنيا quot; الذي نرى مشاهده الهزلية كل يوم. من هنا نجد ان القطيع هو الاساس وليس الفكر والحقوق والحريات وكرامة الانسان والتجارب الانسانية على مر العصور التي حققت في النهاية الديمقراطية.
اذا تم التوافق على مسودة دستور قبل سقوط النظام سوف يمنع السوريين من الصراع على السلطة وبالتالي عدم هدر الدماء والارواح والمزيد من الدمار.
لهذا اكرر ان الوقت يداهم وان قنبلة موقوتة هي بين ايدينا ويجب قطع فتيلها عن طريق التوافق على مسودة للدستور......نعم لم يبق الا خمسة دقائق قبل منتصف الليل وكل مابعده ظلام مجهول ومريع.
التعليقات