لم يكن شعار (سلمية) الذي رفعته الجماهير السورية المنتفضة اختياريا، ولا من باب حب السلام والديمقراطية والتحاور الديمقراطي الأخلاقي الناعم مع نظام ٍ رئيسُه وجيشُه ومخابراته وشبيحته وحوشٌ كاسرة مختلة العقول والضمائر فقدت صلتها بالإنسانية من زمن طويل، بل كان مزيجا من قلة الحيلة ومن الإحساس باليأس وانعدام الأمل في أشقاء العروبة والدين، قبل غسل اليد من حبايب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان الأمريكيين والأوربيين الذين لا يملكون سوى لغة المصالح، وحدها، في الملمات والشدائد.

ولا يُنكر أحدٌ أن سلمية الانتفاضة، رغم الثمن الباهض الذي دفعه المنتفضون، حركت ملايين المحبين الصادقين للعدل والسلام والديمقراطية في الدول العربية كافة والعالم أيضا، وأحرجت دولا عظمى وأجبرتها على خطوات وإجراءات وتصريحات برغم كونها غير فاعلة إلا أنها أزعجت النظام وحاصرته إلى حد كبير.

لكن إصرار (بعض) أطراف المعارضة على هذه (السلمية)، وتقوقعه داخلها، وأصراره على رفض (التسلح)، حتى قبل أن يصير متاحا، والتمسك بأكذوبة الحل الذاتي، أو حل نبيل العربي، نوع ٌ من المشاكسة العبثية المقصودة لذاتها، ولونٌ من العقوق الضار الذي يسيء إلى الشعب السوري بإعطاء الأطراف الدولية المنافقة حجة القول بعدم وحدة المعارضة، وعدم وضوح البديل القادم في سوريا، الأمر الذي يمنح النظام رخصة إضافية للقتل والحرق والهدم، دون رادع. والأكثر مشاكسة ً من هذه الأطراف هي تلك التي ما زالت تجيز الحوار مع الجزار، برغم كل ما فعله، طيلة عام، بالتمام والكمال.

يقول المثل العراقي القديم، (الحق للسيف، والعاجز يريد شهود). ومعناه واضح. فالذي يجري من مطار إلى مطار، ومن فندق إلى فندق، بحثا عن بقية ضمير إنساني حي، في هذه العاصمة أو تلك، ضعيفٌ وعاجز، بلا أدنى شك، في عالم لا يحترم غير القوي القادر على فرض إرادته على الكبير قبل الصغير، بقوة السلاح أو قوة المال، حتى وإن كان معتديا وظالما وابن ستين حرامي.

والمثالية أو فلسفة النضال المدني قد تصلحان للهند أيام الراحل غاندي وحدها. أما في سوريا، وبعد كل ما جرى، ومع واحد ٍ تافه أرعن ومجرم محترف كبشار فهو إما جنون، أو غباء، أو خيانة.

وقد يعترض كثيرون على فكرة البراغماتية، لكن الواقع المر لا يتيح غيرها، وبدونها ليس هناك سوى خيارين، لا ثالث لهما البتة. الأول أن تتحالف المعارضة السورية مع أيٍ ٍ كان، حتى مع الشيطان، لإبعاد السكاكين عن رقاب أطفالها، حتى لو كان هذا الشيطان إسرائيل ذاتها، ما دامت الملايين خرجت من بيوتها وفتحت صدروها ومنازلها لقنابل الطاغية وصورايخه وقررت الموت أو الانتصار. فالعين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم. أما الثاني فهو أن يعود المنتفضون إلى منازلهم لتقوم شبيحة النظام ومخابراته بسوْق فتيتهم، ونسائهم وأطفالهم، واحدا بعد واحد، إلى المسالخ الوطنية النبيلة، ولزرْق الديكتاتور بماء الحياة من جديد.

ولكي نكون أكثر صراحة علينا الاعتراف بأن الأخطر من الفيتو الروسي الصيني على الشعب السوري هو الفيتو الإسرائيلي الذي منع العالم، وأمريكا في المقدمة، من إعانة المنتفضين على إسقاط الديكتاتور، على الأقل في المدى المنظور، وقبل أن ينتف السوريون ريش دولتهم بأيديهم، معارضين وموالين، وقبل أن يتم التأكد الكامل من عدم ظهور خطر محتمل على حدود الجولان، وتطمين الباب العالي في تل أبيب على أن أحدا لن يمس شعرة واحدة من رأس أي مستوطن يهودي، من الآن وإلى أربعين سنة قادمة.

وإلى أن تتحقق ولادة الجسد السوري الجديد الواقعي والمتفهم والموافق على ركوب القطار الأمريكي الإسرائيلي كغيره من الحكام العرب الآخرين لن يسقط بشار، ولن تصل إلى أي منتفض سوري غير بنادق صيد العصافير، من شقيق أو صديق، وسيبقى الشعب السوري في انتظار موافقة الجلاد نفسه على المناطق الآمنة، وعلى مرور المساعدات الإنسانية، وحتى إشعار آخر.

ولو كانت ليبيا وتونس واليمن دولا مجاورة لإسرائيل، كسوريا، لكان الذبح مستمرا فيها إلى اليوم، أو ربما لأذعن العالم، ومعه الناتو، لرغبة نتياهو في بقاء حسني مبارك وبن علي والقذافي متربعين على عروشهم يبعثرون أموال شعوبهم على إعادة الإعمار، وملاحقة معارضيهم (الإرهاببين) ليس في الداخل فقط، بل في أرجاء الدنيا الواسعة، كذلك.

وليس عاقلا من ظل إلى اليوم يُسمي إسرائيل (الكيان الصهيوني)، ويدفن رأس وطنه وشعبه في الرمال، وزعماء العالم الغربي والشرقي معا، وفي المقدمة الفلسطينيون أصحابُ القضية الأوائل، يتوسلون، ويناشدون، ويُحايلون نتياهو، من أجل سلام من أي نوع، ودويلة من أي لون وبأي حجم، ومن أجل الحد، ولو قليلا، من الاغتيال، والتقليل من الاعتداء على الآمنين في الضفة وغزة، والامتناع عن سرقة المياه والثروات، والتخلي عن القليل من الاستيطان. وهاهي الأمم المتحدة، بقضها وقضيضها، وأروبا بكل جبروتها وتاريخها الحضاري العريق، تبلع دعواتها السابقة إلى حل الدولتين، وأمريكا، بعظمتها، تهدد بالفيتو لمنع إجازة دولة جديدة باسم فلسطين.

وقبل المضي قدما في هذا الجدال لابد من التأكيد على أن من غير المنطقي ولا المعقول أن تذوب معارضة، أية ُ معارضة في العالم، في جسد واحد ولسان واحد، وصوت واحد، وقلب واحد. فذلك مستحيل بسبب تنوع المجتمعات وتعدد شرائحها ومذاهبها ومشاربها وقناعاتها. بل الصحيح والمنطقي أن تتنوع وتختلف وتتنافس وتتسابق في ابتكار الأفكار والنظريات والحلول. وحين يشترط المنافقون في الجامعة العربية وأمريكا وأوربا على المعارضة السورية أن تتوحد قبل نجدة الشعب السوري وإنقاذه من المذابح الوحشية المستمرة، فذلك هو التعجيز المقصودُ لذاته، تمهيدا لإنهاك المعارضة، وتفليسها وتقزيمها، وإذلال زعمائها، ومنح النظام مُهلا كافية لتخليص هؤلاء المراوغين من وجع القلب والراس. وكأنَّ المعارضة الليبية، والعراقية أيام صدام حسين، واليمنية والتونسية والمصرية، كانت موحدة حين تنادى العالم إلى حماية المدنيين، وإجبار هؤلاء الطغاة على الرحيل.

ولكن التمترس المَرَضيّ بالأفكار والمباديء الجامدة، والاختلاف على الحصص والأساليب، والدمُ السوري البريء لا يتوقف عن الجريان، في كل مدينة وقرية، وكل حي وشارع، طيلة عام، بلياليه ونهاراته الدامية، منتهى الأنانية والعقوق والقصور.

وفي المعارضة السورية، كما في غيرها، مثقفون من عيار ثقيل، وخبراء وعلماء وأساتذة في التاريخ. وهؤلاء يعرفون أكثر منا جميعا أن أنظمة الحكم، في الكرة الأرضية كلها، ومن أول نشوء البشرية إلى اليوم، لم تسقط ولن تسقط بالمظاهرات والأهازيج والدبكات الشعبية الهاتفة (سلمية سلمية)، بل بالقوة الضاربة، سواء بالانقلابات العسكرية المجازة والمُدبرة والمدعومة من الخارج، أو بالغزوالخارجي والاحتلال. أما من يحلم بإسقاط نظام بشار كما اُسقط بن علي وحسني مبارك فهو إما أبله عقيم أو منافق لئيم. مع التذكير بأن القذافي لم يكن، وحده، الساقط بتدخل الذراع العسكري الأوربي الأمريكي، بل إن تونس ومصر واليمن، وقبلها رومانيا شاوشيسكو، وعراق صدام حسين، وإيران الشاه، لم تشهد سقوط طغاتها إلا بعد أن تفاهمت المعارضة مع الخارج، وعلى كل شيء، على قاعدة (هذا لكم، وهذا لنا)، وكان الله يحب المقسطين.

وأساس العقل في هذه الأفكار الجارحة هو أن أي حال، مهما كان ناقصا ومُرا وقاسيا ومحزنا، لابد أن يكون أرحم وألطف وأكثر أمنا وكرامة من صواريخ الطغاة (الوطنيين) الممانعين، ومن شبيحتهم التي تعلق الجرحى على شرفات منازلهم إلى أن يموتوا.

ومع وفادة السيد عنان ودعوته إلى وحدة المعارضة، تمهيدا لحوار مباشر مع الجلاد، تبدأ جولة جديدة من المماطلات والحوارات والرفض والقبول وخذ وهات. وتبقى في درعا وحمص وحماة ودير الزور والقامشلي واللاذقية وحلب ودمشق تموت العشرات والمئات، كل يوم، من المواطنين الشجعان، فتية ً ونساءً وشيوخا، وحتى أطفالا، حرقا، وذبحا، وتجويعا، وترهيبا، وتعذيبا، واغتصابا، وتشريدا، في انتظار الفرج الذي لن يجيء. وتظل الملايين، عبر شاشات الفضائيات العربية والأجنبية، تصيح (يا عرب أغيثونا)، (يا عالم أنقذونا)، (أين الضمير وأين العدالة)، ولا من مجيب.

طبعا، ليس لدى أحد ٍأدنى شك في أن الجماهير السورية بطلة وجريئة وشجاعة ضربت أروع الأمثلة وأندرها في الثبات على المبدأ، والصبر على المجازر التي كانت تتوقعها من بشار ورهطه بكل تأكيد. ولكن لو توفر لها سلاح فاعل ونافذ وحيوي من البداية، لقهَرَت آلة القتل الروسية الإيرانية الصينية المخيفة، أو على الأقل تمكنت من الحد من جبروتها ونيرانها التي لم ترحم، ولكانت اليوم في القصر الجمهوري، وبأقل القليل من الدم والدموع.

والآن، وبعد أن أطبقت دبابات النظام وشبيحته على حمص وحماة وأدلب ودرعا، وواصلت زحفها نحو مدن وأحياء مهمة أخرى، بدأت مرحلة تفتيت المعارضة، وإغراقها بالاستقالات والانسحابات، وتكبير اختلافاتها وتعميق نزاعاتها، بمختلف المبررات والأعذار والأسانيد، تمهيدا لإغلاق هذا الملف، ولإعلان اتفاق ٍ عربي عالمي نهائي وحازم على (صعوبة سقوط النظام)، بحجة (خطورة التدخل العسكري الأجنبي، ودقة الوضع السوري وتعقيداته، وعدم توحد المعارضين).

أما الإنجاز الساخن الجاري تنفيذه هذه الأيام فهو (تفليش المجلس الوطني، أولا) وبعد ذلك الطوفان، ولتذهبْ هدرا وبالمجان وعبثا، كلُ دماء الشهداء وصرخات المغتصبات وأرواح الأطفال المذبوحين بالسكاكين.

فهل سيفهم المعارضون الداخليون قبل الخارجيين، وقبل فوات الأوان، حقيقة اللعبة فيتقنون فنونها، ويتعلمون لغتها، رغم أنها مؤلمة وخانقة ومزعجة؟. إن الحمى أرحم من الموت. هكذا قال آباؤنا الحكماء.