لا يوجد اختلاف في دوافع وأسباب قيام التظاهرات والثورات على مر التاريخ، فعادة ما تكون أسباب اجتماعية كغياب المساواة والعدل، أو اقتصادية كارتفاع الأسعار وضعف الرواتب، أو سياسية كغياب الديمقراطية والتضييق على الحريات. فتلك هي أسباب الثورات منذ فجر التاريخ، إلا أن ثورات العصر الحديث تختلف في اعتمادها على وسائل تكنولوجية كالهاتف المحمول والإنترنت وما تقدمه من خدمات. ففي ثورة 1919 أثناء الاحتلال البريطاني لمصر، ألتقى سعد زغلول ورفاقه المندوب السامي البريطاني في تشرين الثاني 1918 مطالبين باستقلال مصر وشكلوا الوفد المصري وبدأت حركة جمع التوكيلات الشهيرة التي أستمرت بضع شهور، وفي 18 آذار/مارس 1919 ألتقى الوفد مرة أخرى بالمندوب السامي البريطاني وطالبوا بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح في باريس، فقوبل طلبهم بالرفض وتم اعتقالهم ونفيهم خارج مصر، وكانت تلك شرارة اشتعال الثورة. ولنلاحظ هنا التسلسل الزمني لإندلاع المظاهرات، في اليوم التالي لاعتقال الوفد بدأت المظاهرات من جامعة القاهرة، وبعدها بيومين أمتدت لطلاب الأزهر، وبعدها بأيام قليلة بدأت التظاهرات في عدد من المدن والقرى.
لو كانت تلك الأحداث في عصرنا الحديث لما استغرقت الثورة كل هذا الوقت كي تنطلق، حيث كان من السهل الدعوة للتظاهر عبر الإنترنت وعبر شبكاتها الاجتماعية، بالطبع في عام 1919 كانت هناك عدد من الصحف ولكنها لم تكن منتشرة في جميع الانحاء.
من هنا دور التكنولوجيا في اختصار المكان والزمان والوقت وتسهيلها لاندلاع الثورات.
مصر وتونس: ثورة تديرها الوسائط الاجتماعية
قبل نحو عامين، بدأت منتديات الفيسبوك والتويتر تضخ مواقف وآراء سياسية ضد الانظمة الموجودة في البلدان العربية، وكان يلفت الانتباه تحريضات لبعض الزملاء من مصر وتونس، تنم عن ثورة دفينة ستندلع يومًا ما.
ان المتتبع للحراك السياسي والاجتماعي قبل بدء ثورة 25 يونيو في مصر، يلاحظ مثلا ان فتاة تدعى إسراء عبد الفتاح وكانت تبلغ حين ذاك من العمر 17 عامًا، قامت، من خلال موقعها على quot;الفيسبوكquot;، بالدعوة إلى إضراب سلمي، في 6 نيسان/ابريل 2008، احتجاجًا على تدهور الأوضاع المعيشية، وسرعان ما لقيت دعوتها استجابة من نحو 70 ألفا من الجمهور. والنتيجة أن الإضراب نجح، وأطلق على إسراء في حينه لقب quot;فتاة الفيسبوكquot; وquot;القائدة الافتراضيةquot;.
ان اول سبب دفع بالمواطن العربي الى استخدام الفيسبوك والوسائط الاجتماعية لتفجير ثورته ضد الانظمة المستبدة التي تكبل من حريته، كان غياب الاحزاب في البلدان العربية، لذلك وجد في منتديات الفيسبوك تنظيمًا استبدله عن نمطية الاحزاب السائدة في البلدان العربية.
ففي حين كان الغرب وشبابه يدخلون الوسائط الاجتماعية من اجل تقوية العلاقات الانسانية وحتى البحث عن شريك، وجد المواطن العربي في تلك الوسائط متنفسًا لما يكبله من سلب لحرياته فكانت المنتديات الالكترونية وكانت التنظيمات عبر الفيسبوك والتويتر تنظم من اجل اسقاط نظام واستبداله بآخر.
من هنا لعبت تكنولوجيا الاتصالات دورًا هامًا في الدعوة للثورة المصرية وبخاصة الشبكة العنكبوتيه ويتأتى دورها من خلال الموقع الاجتماعى فيسبوك الذي إستغله النشطاء السياسيون في مصر للتواصل مع بعضهم البعض وطرح ونشر افكارهم اذ قام المواطن المصري وائل غنيم والناشط عبد الرحمن منصور بإنشاء صفحة بعنوان quot;كلنا خالد سعيدquot; في الموقع الاجتماعي فيسبوك على شبكة الإنترنت، وكان خالد سعيد قد قـُتل في الإسكندرية بعدما تم تعذيبه حتى الموت على أيدي اثنين من مخبري شرطة قسم سيدي جابر، مما أثار احتجاجات واسعة مثلت بدورها تمهيدًا هامًا لاندلاع الثورة. كما دعا وائل غنيم والناشط عبد الرحمن منصور من خلال الصفحة على موقع الفيسبوك إلى مظاهرات يوم الغضب في 25 يناير عام 2011.
فالثورة عندما بدأت يوم 25 يناير كانت مكونة من الشباب الذين شاهدوا صفحةquot;كلنا خالد سعيدquot; على موقع الفيسبوك أو شباب الفيسبوك كما قال وائل غنيم في حديثه مع منى الشاذلي في برنامج العاشرة مساءً، ومن ثم تحولت إلى ثورة شارك فيها جميع الشباب.
وقبل الثورة المصرية لعبت المواقع الإلكترونية دورًا هامًا في تعريف العالم بالاحتجاجات التي اجتاحت تونس وأدت إلى الإطاحة بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
ورغم حجب السلطات التونسية مواقع إلكترونية وإخبارية مهمة، تمكّن متصفحو هذه المواقع من اختراق الحظر. وبث العديد من التونسيين تسجيلات مصورة لمشاهد من الاحتجاجات، أتاحت للملايين عبر العالم مراقبة تطورات الاحتجاجات التونسية.
والتقطت معظم تلك الصور بكاميرات هواتف محمولة، وجدت طريقها إلى مواقع إلكترونية، كموقع فيسبوك ومواقع أخرى، نجح مرتادوها في اختراقها رغم حجبها، وأظهرت للعالم أحداثًا ما كان ليتمكن من مشاهدتها قبل التطور الهائل في ثورة الاتصالات.
وكانت السلطات التونسية تدرك مدى خطورة المواقع الإلكترونية والمدونات في تأليب الرأي العام مستخلصة العبرة من الاحتجاجات التي شهدتها إيران بعد الانتخابات الرئاسية عام 2009
وشمل الحجب في تونس مواقع عدة تحظى بشعبية أبرزها quot;يوتيوبquot; وquot;ديلي موشنquot; وquot;وات تي فيquot;، فضلا عن مواقع إخبارية مهمة ، ومواقع المنظمات الحقوقية الدولية، والعشرات من المدونات الشخصية.
لكن الحظر فشل بعد تصوير مشاهد من الاحتجاجات، وبثها على مواقع على الشبكة العنكبوتية لتثبت تكنولوجيا الإعلام انها تمثل فضاء بلا حدود.
الادوار الثلاثة التي لعبتها الوسائط الاجتماعية
ان المتتبع لحركة فيسبوك مثلاً قبل وخلال أحداث يناير سيجد ثلاثة أدوار مختلفة لعبها في تلك الأحداث، اولاً الدعوة إلى التظاهر، ثانيًا بث أخبار المظاهرات، ثالثُا المشاركة في سرعة تداول أخبار المظاهرات
اولاً: الدعوة إلى التظاهر يوم 25 يناير
في 15 يناير تقريبًا بدأت الدعوة لمظاهرة كبرى في مصر، أي بعد يوم واحد من انهيار نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي. وقد أختار أصحاب الدعوى يوم عيد الشرطة المصرية في 25 يناير. تبنى الدعوة إلى التظاهر في توقيت واحد تقريبًا 3 جماعات على فيسبوك وهي:
1- صفحة كلنا خالد سعيد، ويبلغ عدد أعضائها حوالي 600 ألف عضو، وهى أكبر تجمع مصري على فيسبوك..
2- حركة 6 أبريل: ويبلغ عدد أعضائها 53 ألف عضو في الصفحة، و93 ألف للمجموعة.
3- مجموعة البرادعي رئيسًا لمصر 2011، ويبلغ عدد أعضائها نحو 244 ألف عضو.
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يلبي الآلاف من المصريين تلك الدعوات الإلكترونية، ويبدو أن الأجهزة الأمنية والسياسية في مصر لم تهتم بتلك الدعوات، وعلى الصعيد السياسي تم التعامل مع مظاهرات يوم 25 يناير 2011 مثلما تم التعامل الأمني معها. أمنيًا تم إدراك خطورة تلك الدعوات الإلكترونية، وهو الأمر الذي أدى إلى قطع جميع وسائل الاتصال عن القطر المصري في حادثة هى الأولى من نوعها في العالم، حيث تم حجب موقعي تويتر وفيسبوك وبعدها بساعات تم قطع الاتصال بالإنترنت، وجميع خدمات الهاتف المحمول.
ثانيًا: تغطية أخبار المظاهرات
وفي تلك المرحلة بدأ دور موقع تويتر في الظهور، حيث كان لشبكة رصد دور كبير في نشر تحديثات حول أحداث المظاهرات، وكذلك العديد من المشاركين في المظاهرات سواء من المتظاهرين أو من الشخصيات العامة المشاركة مثل صفحة الدكتور أيمن نور على تويتر والتي بث من خلالها العديد من التحديثات حول أحداث المظاهرات
ويمكن تلخيص الدور الذي قام به فيسبوك وتويتر في النقاط التالية: بث أخبار من قلب المظاهرات، تحديد خط سير المظاهرات وأماكن التجمعات ونشر مواد مصورة ومرئية حول المظاهرات
وما كان هذا ليحدث إلا باستخدام الإنترنت عبر الهاتف المحمول والذي يصل عدد مستخدميه في مصر إلى 8.5 مليون مستخدم، بالاضافة إلى خدمات البلاك بيري التي أخذت في الانتشار السريع أخيرًا، بالاضافة إلى مديري الصفحات أو من ينوب عنهم الذين كانت لهم مهمة أساسية وهى عدم التظاهر وبث أخبار المظاهرات عبر فيسبوك وتويتر.
ولعل كل ما سبق كان سببًا لقيام الأمن بقطع كافة وسائل الاتصال عبر المثريين بعد تظاهرات أيام 25 و26 و27 يناير 2011 وقبل يوم quot;جمعة الغضبquot; في 28 يناير 2011، ظنًا منهم أن هذا سيربك المتظاهرين وسيربك ترتيب المظاهرات، إلا أن أرض الواقع أثبتت خطأ تلك النظرية الأمنية المصرية الأصيلة، حيث اندفع الجميع إلى الشوارع.
ثالثًا: المشاركة في سرعة تداول أخبار المظاهرات
وقامت بعض الصفحات بتخصيص أشخاص لتغطية أحداث المظاهرات من قلب الأحداث وعن طريق متابعة المواقع الإخبارية والقنوات الفضائية، وكانت تتم تلك المهمة من قبل البعض على اعتبار أنها خدمة تقدمها الصفحة لأعضائها، إلا أن الجديد هنا هو مشاركة المؤيدين للمظاهرات في تداول تلك الأخبار على موقع فيسبوك وتويتر بشكل سريع للغاية، فالكل تطوع للعمل كموزع للأخبار عبر تحديث الحالة على موقع فيسبوك وكذلك تويتر، وكانوا يقومون أيضًا بنقل الأخبار من المصادر المختلفة ونشرها في الصفحات التي تبث أخبار المظاهرات.
جدلية في الادوار
في منتدى الاعلام العاشر الذي جمع معظم الاعلاميين في دبي تمت مناقشة دور وسائل الاعلام وخصوصًا الوسائط الاجتماعية في الحراك السياسي الدائر في الدول العربية.
وكان النقاش محتدمًا خلال المنتدى، بين وسائل الاعلام التقليدية اي التلفزيون والراديو والصحف، وبين وسائل الاعلام الحديثة المتعلقة بالانترنت والمواقع الاجتماعية، فكانت الوسائل التقليدية تدافع عن دورها المهني في نقل المعلومة، حيث الصدقية اكبر، وحيث انها استطاعت نقل الصورة الدقيقة عن كل الثورات الجارية في الوطن العربي، لتقف الوسائل الحديثة لتدافع عن وجودها في اماكن ونقل الحدث حيث لم تستطع الوسائل التقليدية الوصول، بحيث اصبح المواطن هو من يصنع الحدث، هو من يلتقط الصورة، وهو من يضخها في مواقع التواصل الاجتماعي.
فكان دفاع مستميت لقناة العربية مثلاً، خلال المنتدى، عن دورها المهني، رغم ذلك اقرت بانها ادخلت ضمن برامجها تفاعلاً اكبر نجده فقط في الوسائط الاجتماعية، من خلال ابراز الجمهور لارائهم في قناة العربية عبر الفيسبوك والتويتر.
ودار نقاش ساخن ايضًا حول المادة الاعلامية التي تضخها الوسائط الاجتماعية كيف بامكانها ان تكون quot;مفبكرةquot; وأُعطيت امثالاً كثيرة منها ما جرى من تحريف للحقيقة من خلال فيديوات نشرت على يوتيوب وتويتر اتضح في ما بعد انها ليست بالصدقية المتوخاة منها.
ان الوسائط الاجتماعية على اهميتها ودورها في الحراك السياسي، الا انها اذا ما حُرِّفت عن طريقها الصحيح بامكانها ان تدمر هذا الحراك، كونها تكون اداة كاذبة في تحريف بعض الحقائق، ولان لا رقابة على الوسائط الاجتماعية اليوم، فان بامكان اي كان ان يختلق كذبة ويصورها على انها حقيقة، من هنا دور المواطن العربي الذي تحركه الثورات في الاستفادة مما تضخه هذه المواقع شرط ان يعي مدى صدقية المواد التي تبثها.
صحيح ان الاعلام الحديث يشكل تفاعلاً اكثر بين المتلقي والناشر، مما يؤثر تلقائيًا على الحراك السياسي الاجتماعي في الدول العربية، لكن من المفيد ايضًا التأكد من صدقية ما ينشر، وعدم الانجرار وراء كل ما نراه، لان الصورة قد لا تنقل الواقع الحقيقي تمامًا كنظرية المفكر الفرنسي جان بودريار عن عالم الواقع المفرط التي تبثه وسائل الاعلام، خصوصًا وان المجال العام بتعريف الفيلسوف وعالم الاجتماع الالماني يورغن هابرماس، أصبح الساحات والشوارع التي تحركها بخيوط خفية كل الوسائط الاجتماعية من فيسبوك وتويتر وغيرها.
التعليقات