إن قسما كبيرا من دوافع نوري المالكي إلى تبنيه الدعوة إلى عدم تسليح المعارضة السورية وهي جماهير المنتفضين الذي تعد بالملايين و(ليست معارضة برهان غليون ولا الهيثميْن) والتنبؤ ببقاء النظام يعود إلى تجربته المرة في المعارضة العراقية السابقة وخصوصا عجزَها عن إزعاج نظام صدام، ناهيك عن إسقاطه، بسبب ما كان واقعا من عدم توازن قوى بين جيوش النظام، يومها، وبين فتافيت المعارضة العراقية (الوطنية) و(الإيرانية) و(السورية) و(الأمريكية) و(السعودية) و(التركية) جميعها. إلى حد أن حزب الدعوة نفسه الذي كان يعارض، بقوة، أي تدخل أمريكي لإسقاط النظام، تحول، مضطرا، في أعقاب مؤتمر لندن 2002، من النقيض إلى النقيض، وبارك دخول الدبابات الأمريكية إلى قلب بغداد لتفليش الدولة العراقية، وتسليم الأسلاب والقصور المخربة والبنوك الخاوية لجماعات المعارضة القادمة، كلها، من الخارج، ليحصل ابراهيم الجعفري ونوري المالكي وحزب الدعوة على حصة كبرى من كعكعة السلطة في عراق ما بعد صدام.

ورغم أن إيران وضعت أرضها وهواءها ومياهها وأموالها وسلاحها وخبراءها، وحتى مجنديها، تحت تصرف أحزابها العراقية المعارضة لتكون هي المنطقة الآمنة التي تطالب بها اليوم معارضة سوريا ولا تحصل عليها، فلم تستطع تلك المعارضة أن تنجز سوى بضعة تفجيرات خائبة، هنا وهناك، وسوى عمليات اغتيال معدودة على الأصابع راح ضحيتها بعض مواطنين أبرياء لا علاقة لهم بصدام ولا بنظامه.

والمعروف والثابت من تاريخ تلك المعارضة الفاشلة أن الطائفة الشيعية العراقية التي يحتكر حزب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة العمل الإسلامي وكوادر حزب الدعوة وحزب الدعوة ndash; تنظيم العراق، اليوم، تمثيلها والنـُطق باسمها رفضت العمالة لإيران، وظل ضباطها وجنودها (الشيعية) يقاتلون مع صدام حسين (السني) ثماني سنوات، دفاعا عن وطنها العراقي ووحدة ترابه، ورفضا لهيمنة إيران وجندها ومليشياتها عليه.

ورغم أن ديكتاتورية صدام كانت طاغية ولا جدال فيها فإن أحزاب الديمقراطية واليسار لم تفعل كثيرا في الشارع العراقي بدعواتها إلى الدولة الديمقراطية العلمانية العادلة، بسبب طغيان هيمنة الأحزاب الدينية (ذات التبعية الإيرانية والسورية) على مجمل نشاطات المعارضة وخطابها.

وحين اندلعت الانتفاضة الشعبية العارمة في آذار 1991 ضد النظام لم تكن شرارتها الأولى ولا دوافعُها ولا أهدافهُا إيرانية ولا أمريكية ولا سورية ولا سعودية ايضا. فقد اندلعت فجأة ودون قيادة، وبعفوية وطنية عراقية خالصة، وكان أقوى أسبابها هو الغضبُ الجماهيري على الكارثة التي حلت بجيوش النظام، والتي راح ضحيتها الالاف من الجنود والضباط في حرب ٍ غبية ٍ غير متكافئة في صحراء الكويت.

وفي مؤتمر المعارضة الأول في بيروت 1991 تعارك (الأشقاء) المعارضون على أبوة هذه الانتفاضة، وتقاتل الإسلاميون (الشيعة) فيما بينهم على زعامتها والاستحواذ على مكاسب انتصارها المفترض، كما رفضوا السماح للمعارضين الشيوعيين والعلمانيين بمشاركتهم في أبوة الانتفاضة، بل عارضوا دخولهم إلى قاعة المؤتمر، لولا وساطة إيران ذاتها.

وحين ظهرت صور الخميني في مناطق الانتفاضة (الجنوبية)، وأطلق جواسيس المخابرات الإيرانية هتافاتٍ طائفية إيرانية غير عراقية وغير وطنية تعبر عن روح الانتفاضة تبخر أكثر من ثلاثة أرباع المنتفضين، وسمح جورج بوش الأب لصدام حسين وعلي حسن المجيد ومحمد حمزة الزبيدي بسحقها، بكل ما أوتوا من جبروت وهمجية وانتقام. وكانت النتيجة أن دفعت مئات الألوف من المنتفضين ثمن انتهازية إيران وأنانية قيادات المعارضة الإسلامية وقصر نظرها وغرورها.
وانطلاقا من ذكريات تلك الأيام وترسبااتها في أعماق نوري المالكي بنى نظريته السورية الجديدة، التي تقول: quot; إن جيوش بشار مسلحة ومُجرِّبة ومتمكنة، فإذا ما سُلح الجيش الحر بما يعادل قوة النظام، فماذا سيحصل؟ مجازر لا حدود لها، وفوضى لا نهاية لجحيمها، الأمر الذي سيهز أمن العراق واستقراره، وربما المنطقة كلهاquot;.

ومع ما تمثله هذه النظرية من تسطيح للقضية وتبسيط لتعقيداتها، فهي، في الوقت نفسه، تفضيل مقصود ومؤكد للنظام، وترخيص له، وحده، بالاستمرار في احتكار السلاح والمداهمة والقتل والحرق والتدمير والتهجير، بل رغبة دفينة في الإبادة الجماعية لملايين السوريين الرافضين لسلطة الجلاد.

ولا يمكن الجزم بعدم تابعية هذه النظرية للموقف الإيراني، بأي حال من الأحوال. وسواء كانت تلك فلسفة ً إيرانية مفروضة على رجالها في بغداد، أو اخترعا ذاتيا من نوري المالكي، فالنتيجة واحدة. فهي تتجاوز حقائق مهمة كثيرة، أهمها أن معارضة الخارج السوري الحالية كانت إلى ما قبل أيام، وبعضُها إلى ما قبل أسابيع أو حتى أشهر، معارضة داخلية صميمة. ومع ذلك، وإضافة إليه أيضا، فقد فوضت ملايينُ المنتفضين في جميع مدن سوريا وقراها، من خلال أيام الجُمع المتكررة، معارضة الخارج بتمثيلها. وهذا عكس ما حدث لأحزاب المعارضة العراقية السابقة التي كانت، جميعُها، خارجية معزولة وعاجزة عن تحريك معارضة الداخل الملايينية الصامتة الصابرة.

وهذا يعني أن تسمية (المعارضة) في سوريا تعني جميع المدن والقرى والحارات والأحياء الثائرة التي لم تستطع آلة القتل الأسدية أن تسكتها، على امتداد سنة كاملة من الذبح والتنكيل والمداهمة والاغتصاب وقطع الماء والكهرباء والغذاء.

بالمقابل كانت شرائح واسعة من الشعب العراقي غير مقتنعة بأحزاب المعارضة العراقية، وبعض منها يرى أنها لا تمثله، ويدمغ بعضها بالعمالة والعمل بتمويل ٍ وتوجيه ٍ كامليْن من دول خارجية ليست كلها حانية على الشعب العراقي، ولا حريصة على مصالحه ومستقبله. أما معارضة سوريا (لداخلية والخارجية معا) فلم تجد، إلا مؤخرا، دولا تحن عليها وتتفهم عدالة مطالبها. وما زال أغلب (أصقاء سوريا)، برغم الوعود الحماسية الكثيرة، يتلكأ في التنفيذ والبذل والعطاء.

وإذا كان المالكي مقتنعا بأن الدعم الإيراني ومشاركة مقاتلي حزب الله وتهريب السلاح والمال والرجال من العراق أو عبر أراضيه، وتصريحات لافيروف العنترية وبوارج روسيا في اللاذقية عوامل كافية لكي تنقذ رقبة النظام، وتبرر حكمَه باستحالة إسقاطه بمعارضة ٍ سورية متفرقة غير موحدة، وبجماهير مدنية غير مسلحة، وبجيش حر لم يتجاوز تسليحه بنادق صيد الحمام، فهو ليس خاطئا وحسب، بل أعمى بصر وبصيرة، كذلك.

ففي سوريا اليوم حرب مفتوحة بين شعب كامل وحاكم، دامت سنة، وقد تستمر سنة أخرى وربما ثالثة، رغم أن القوة غير متوازنة وغير متكافئة، غير مسموح لأحد طرفيها بإنهائها إلا بانتصاره الكامل والنهائي. مع الأخذ بعين الاعتبار بجميع التداخلات والتشابكات الإقايمية والدولية الشائكة. ولو راقب نوري المالكي الموقف الروسي نفسه، وقبله الموقف الصيني، من بداية الانتفاضة وإلى يوم صدور بيان مجلس الأمن الأخير الذي أيدته روسيا والصين، لأدرك أن قوة دفع الانتفاضة في مواجهة النظام، حتى في أقصى حالات عنفه الدامي المدمر ودرجاته، هي الفاعلة الوحيدة على الساحة، وهي وحدها التي تضع المقدمات وتحدد لها النتائج، لا داخليا وحسب، بل على ساحة الفعل الدولي، نفسه، دون ريب.

وبكا الحسابات والموازين فالعالم، (أمريكا وأوربا ودول عربية وأفريقية وآسيوية فاعلة)، بدأ يتحرك رويدا رويدا باتجاه دعم المعارضة، على الأقل لرفع العتب وتلافي الحرج الذي تتسبب فيه جرائم النظام وشبيحته بحق المدنيين العزل، وخاصة منهم الأطفال والنساء والمرضى والجرحى والمصابين والأسرى، إلى جانب تغّير ٍ واقعي ٍ مهم آخر وحتمي وهو أن جيوش النظام، مع استمرار هذه المواجهة الباهضة ماليا ومعنويا وجهوزية، لابد أن تؤدي إلى حالة من الإنهاك والملل والإحباط. ومع أي تراخ ٍ بسيط لقبضة الأسرة الحاكمة سوف تتسارع الانشقاقات وتتلاحق مظاهر التآكل والانهيار، مقابل جماهير لم يعد لديها ما تخسره، بعد أن دفعت من دماء أبنائها ومن قوتها وأمنها الشيء الكثير، ولا يمكن ولا يعقل أن تعود إلى أحضان النظام، مثلما عاد إلى أحضان صدام حسين في العراق في العام 1991 كثيرٌ من المعارضين السابقين، وحتى من المشاركين في الانتفاضة ذاتها.

ولأن رئيس الحكومة العراقية الحالي، وهو الموكل بالنطق باسم شركائه الآخرين في العملية السياسية، قرر الانحياز ضد الجماهير السورية لصالح جلادها، خدمة للمصالح الإيرانية، وبنوازع طائفية معيبة، وليس خدمة للمصالح الوطنية العراقية، فقد وضع نفسه في معسكر النظام، واختار أن يتحمل نصيبه من نتائج هذه المعركة الخاسرة. ( ومن جهز غازيا فقد غزا).

وما دام النصر، أولا وأخيرا، لا يمكن أن يكتب لنظام يصارع الطوفان ويريد أن يبقى في السلطة ضد إرادة شعبه، وبقوة القتل وحدها، فإن أبرز الخاسرين بسقوطه وأولهم لابد أن تكون إيران، ثم حزب الدعوة العراقي وحزب الله اللبناني، دون ريب.

فمن الطبيعي والمتوقع أن يرد المنتفضون السوريون، بعد أن ينتصروا، صاعا بعشرين لمن وقف ضدهم وساهم في ذبح أطفالهم واغتصاب نسائهم وحرق مدنهم وقراهم.

وإذا ما ظل نوري المالكي رئيسا لوزراء العراق حتى موعد انتصار الشعب السوري على جلاديه فمن الطبيعي والمتوقع والمشروع معا أن يتحالف حكام سوريا الجدد مع شركائهم العرب والأجانب الكارهين لإيران وأذرعها العراقية واللبنانية المؤذية، لإسقاطه ونصرة خصومه عليه. وبكل الحسابات والموازين لا يمكن أن يكون عراق اليوم هو نفسه عراق ما بعد بشار. والسؤال المشروع هنا هو ما هي ناقة الشعب العراقي أو جَملـُه في هذه الحرب الخاسرة؟