علق السيد رزكار على الجزء الأول من هذه المقالة مقترحا تقسيم العراق. لا بد من أن هذه الفكرة قد راودت الكثيرين بعد أن أخذ اليأس يلعب دوره فى النفوس لما نقرأه ونلمسه يوميا من تنافر بين السنة والشيعة ، والكرد والعرب ، والكرد والتركمان ، وازدياد الكراهية بينهم الى درجة مؤسفة. أجد أن المسؤولين عن ذلك هم القادة السياسيين وشيوخ الدين الذين يتصارعون على المناصب ولا يهمهم من أمر البلد شيئا ، وأجدهم يتصرفون وكأنهم عثروا على دار مخربة تحتها كنز فلم يهمهم أمرها ولا أمر ساكنيها البائسين وانما أخذوا يتنازعون للحصول على الكنز فقط. وهذا يشبه ما كنا نشاهده فى الأفلام الأمريكية عندما تخرج مجاميع من المغامرين للبحث عن الذهب ، وعند العثور عليه يحاول البعض منهم الاستئثار به لنفسه فيبدأ يفكر بالتخلص من الآخرين ، وينشب بينهم قتال يقضى عليهم جميعا ، ويصبح الذهب من نصيب آخرين.

المشكلة الكبرى فى تقسيم العراق من أعقد المشاكل ، هل سيوافق الأكراد على الحدود الجديدة والتخلى عن المناطق المتنازع عليها وهناك العرب والتركمان الذين يدعون بعائديتها لهم؟ كم من السنين ستمر والتضحيات التى ستقدم حتى الوصول الى اتفاقية حدود ترضى الجميع؟ من حق كردستان الانفصال بلا منازع ، ولكن هل بالامكان تحقيقه على أرض الواقع؟ لا أظن ، وأرى أن النزاع ونزيف الدم قد يستمر الى الألفية الثالثة ، إن لم تتساهل جميع الأطراف ويغلبون العقل على الجهل والواقع على التمنى والخيال.

وتقسيم العراق بين السنة والشيعة سيكون مشكلة أكبر ، فان هذا الشعب العريق قد تعود على العيش سوية بكل الطوائف والقوميات والأديان فنادرا ما تجد مدينة او محلة من المحلات تقتصر على طائفة واحدة ، ولمسنا ذلك بعد عمليات التهجير وكيف عاد معظم المهجرين الى منازلهم القديمة واستقبلوا بدموع الفرح من الآخرين. وكيف ستقسم بغداد بين السنة والشيعة؟ هل نشرع بنقل مئات الألوف من مساكنهم وإحلال الآخرين مكانهم ورغما عن ارادتهم؟ هل يمكن تخيل الفوضى العارمة التى ستنتج عن ذلك؟ لا أجد أن ذلك سيحدث مطلقا ، لا الآن ولا بعد سنين طويلة. والحل الوحيد أمامنا هو ان نعود أنفسنا على العيش مع الطرف الآخر بوفاق ومحبة ونتجنب الجدل والنقاش فى الشئون الخاصة ومنها الدينية والقومية والطائفية والتى هى فى حقيقتها أمور شخصية ورثناها عن الآباء والأجداد بحسناتها وسيئاتها ولا يمكننا التخلى عنها. وهنا يلعب المسئولون دورا رئيسيا فيها فيستعينون بكل من يؤهله عمله أو منصبه بالمعاونة ابتداء من مشايخ دين حقيقيين واساتذة الجامعات ووصولا الى مختارى المحلات لإفهام الجميع بأن فى اتحادهم قوة وسعادة وتفرقهم تعاسة ونكد ، وبمعاونة الإعلاميين الوطنيين الذين يوضحون للناس فوائد الاتحاد ومخاطر وأضرار التقسيم على الجميع.

وعلق (د. أكرم) وكان تعليقه موضوعيا مفصلا أشكره عليه ، ولكنى لا اتفق معه فى كثير من النقاط التى طرحها. لو يراجع د. أكرم مقالاتى السابقة والحالية لما وجد فيها مدحا للسيد المالكي ، فانى لا أجد انه قد استطاع عمل شيء يستحق عليه المدح الا القليل مع مرور حوالى 6 سنوات وهو يرأس الوزارة ، ومنها صولة الفرسان فى البصرة وطرده لعملاء ايران منها ، وتهدئة الاحتقان الطائفي فى الأعوام 2006 و 2007 ، وزيادة انتاج النفط وتوقيع عقود جديدة لحفر آبار جديدة ، والعمل على خروج القوات الأجنبية من العراق ، ولكنى من الناحية الثانية لا أريد ان أظلمه وأنا أرى أنه مقيد ومحاط بالأعداء ، ومنهم : عدوه الأكبرحزب البعث العراقي وأنصاره فى العراق وخارجه والكتل والأحزاب التى يقودها بعثيون قدماء من الذين كانوا قد اختلفوا مع صدام على أمور ادارية ولم يختلفوا معه على نظام الحزب. والأعداء الآخرين هم رجال الدين من السنة وعلى رأسهم حارث الضاري ، ومن الشيعة وعلى رأسهم مقتدى الصدر ، ثم القاعدة الارهابية وعملائها فى العراق الذين يسمون أنفسهم (دولة العراق الاسلامية) ، وهؤلاء يتعاونون مع البعثيين والسنة المتطرفين ، وقد سببوا للعراق أكبر الكوارث ومنها قتل عشرات الآلاف من العراقيين ، وتفجير الأماكن المقدسة لإثارة الكراهية والبغضاء بين السنة والشيعة ، وتدمير أبراج الكهرباء والاتصالات وأنابيب النفط والمنشئات العامة والخاصة وبثوا الرعب والفزع بين العراقيين. يضاف الى ذلك الأكراد فى الشمال بقيادة السيد مسعود البارزاني الذى قام مؤخرا بهجمة شعواء على المالكي لأنه يجد فيه (حايط نصيص) وحجر عثرة للحصول على مطامعه التى لا حدود لها ، خاصة بعد أن نصحته أمريكا بعدم اعلان الانفصال عن العراق وهددته بالكف عن حمايته التى هو بأمس الحاجة اليها ، فصب جام غضبه على المالكي ، بينما هو لا يتجرأ على ذم تركيا بكلمة واحدة بينما طائراتها تقصف اقليمه متى شاءت.

هذا فى الداخل ، وأما فى الخارج فهناك ايران تحاول قصارى جهودها التدخل يعاونها عملاؤها فى الداخل ، وتركيا تتدخل ايضا لاثارة الفوضى وترسل طائراتها الحربية لقصف كردستان وتحاول إعادة مجدها المفقود فى المنطقة العربية. سورية بشار الأسد الذى كان يقف للعراق بالمرصاد ويسهل مرور الارهابيين اليه ويحمى البعثيين العراقيين باحتضانهم فى سورية ، وهو ساقط لا محالة ولكن الخشية ان يكون الخلف أسوأ من السلف. وهناك الأردن الذى (يستضيف) رغد صدام حسين ويحمى الهاربين من الحكم البعثي المباد على أمل المساومة بهم للحصول على النفط بأبخس الأثمان. السعودية التى لم تكن فى يوم من الأيام على وفاق مع حكومات العراق المتعاقبة ومنذ تأسيس الحكم الملكي على عهد فيصل الأول السني الحجازي وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني ، واستمر الجفاء الى عهد الزعيم عبد الكريم قاسم وصدام حسين السنيين والآن المالكي الشيعي ، مما يؤيد الرأي القائل أن النزاع ليس طائفيا فى حقيقته وانما لأسباب سياسية وتأريخية لا مجال لذكرها هنا.

الكويت التى يسعى قادتها لحمايتها من محاولات العراق فى ضمها اليه حقا أو باطلا ، اتخذت من غزو صدام لها ذريعة لفرض العقوبات المالية الظالمة على العراق لتدميره انتقاما على الأعمال الاجرامية التى قام بها صدام فى الكويت. والمؤمل ان يتحسن الوضع مع الكويت بعد مؤتمر القمة العربية فى الاسبوع الماضى لمصلحة الجارين الشقيقين. ومؤخرا برزت امبراطورية قطر العظمى التى يحمى ظهرها الأسطول الخامس الأمريكي بطائراته وصواريخه والتى يظهر انها قررت اقتسام الشرق الأوسط بينها وبين اسرائيل وتركيا وايران بمباركة أمريكية ، وتتصرف وكأن الأمريكان سيحمونها الى ما لا نهاية.

واليوم (الثلاثاء 3/4) وانا أكتب هذه السطور قرأت عن وصول المتهم الهارب طارق الهاشمي فى يوم أمس الى امبراطورية قطر العظمى واستقبلوه بالأحضان مع علمهم بأنه مطلوب فى العراق قضائيا ويرفضون تسليمه الى الحكومة العراقية. الأكراد يقولون أن الأخلاق الكردية لا تسمح بتسليمه ، والعرب يقولون ان الأخلاق العربية لا تسمح بذلك ايضا ، ولا ريب فى انهم جميعا زيفوا الحقيقة فرفعوا كلمة (مصالح) ووضعوا محلها (أخلاق).

ترى كيف يستطيع أي حاكم سواء كان المالكي أم غيره أن يقوم بواجباته على أكمل وجه وهو محاط بكل هذه الفوضى العارمة؟
اننى فى الحقيقة أرثى لمن يحكم شعب العراق الذى تعود على معارضة حكامه حقا أو باطلا ، ويعتبر المعارضة عملا وطنيا. وطالما تساءلت فيما إذا كان منصب حاكم العراق يستحق كل هذه المشاق والمتاعب والأهوال ، فإن أجابنى أحد :من أجل خدمة الوطن ، أقول له : إبحث عن غيرها!

نيسان/ابريل 2012