يقول الغربيون أن الديموقراطية ولدت فى بلاد الإغريق القدماء، وانتقلت الى روما حيث تخلصت من ملكها السلطوي فى عام 510 قبل الميلاد بعدما اشتدت التهديدات الخارجية عليها والاضطرابات الداخلية فيها، وقامت مجموعة من الرومان الأرستوقراطيين بحركة قضت على النظام الملكي وأقامت بدلا عنه نظاما شبه ديموقراطي. وشكلت المجموعة من انفسهم مجلسا وانتخبوا أحدهم ليكون رئيسا لمدة سنة واحدة، على ان تتكرر عملية انتخاب الرئيس سنويا. لم يكن النظام الجديد فى الحقيقة ديموقراطيا لأن الشعب لم يكن له رأي فيما يحصل ولا يشارك فى انتخابات الرئيس وليس للمرأة أية حقوق. وبعد سنين قليلة اتفق أعضاء المجلس (الذى أطلق على نفسه اسم مجلس الشيوخ) على أن يمنحوا الرئيس سلطات استثنائية لمدة 6 أشهر قابلة للتجديد وذلك عند حصول مشاكل يعسر حلها أوحصول خلافات شديدة بين الأعضاء مما يجعل من العسير تمرير القوانين والأنظمة بالطرق المعتادة. كما خولوه أن يفعل كل ما يشاء مما يراه مفيدا للمصلحة العامة، وجعلوه مصونا وغير مسؤول عن تبعة أعماله. أصبح لويس سنسناتس أول ديكتاتور فى روما يفوز بهذا اللقب، وآخرهم كان يوليوس سيزر الذى قتل بمؤامرة أعضاء مجلس الشيوخ عليه من بينهم صديقه (بروتوس) الذى خاطبه سيزر المتخبط بدمه بالعبارة الشهيرة : حتى أنت يا بروتوس؟ كان سيزر محبوبا من الرومانيين وحزنوا لمقتله. أما سبب تلك المؤامرة فهو خشية أعضاء مجلس الشيوخ من أن يقوم سيزر بحل مجلسهم ويمنعهم من ممارسة سلطاتهم التى منحوها لأنفسهم.
لا ريب فى أن أوائل القادة والزعماء فى العالم كانوا من ذوى العضلات القوية فرضوا أنفسهم على أتباعهم بقوة عضلاتهم، وتطور الأمر وشارك أصحاب العقول النيرة فى الحكم الى جانب ذوى العضلات، وانضم اليهم فيما بعد الأغنياء. ثم اضمحل بالتدريج دور العضلات بعد أن بدأ العلم والمال يلعبان دورهما فى إدارة دفة الحكم. تبع ذلك ظهور الأديان وأخذ دعاة الدين بشتى صوره التغلغل بين الحكام وأزاحوا الكثيرين منهم واحتلوا مناصبهم بما كانوا يعدون به الناس من حياة أبدية سعيدة فى الآخرة. واستفحل أمر رجال الدين فى اوروبا ونافسوا الملوك بشدة ونشروا الخرافات بين الناس لتخويفهم وحاربوا وقتلوا وحرقوا العلماء المتنورين وأزاحوهم عن طريقهم. ولكن العلم تغلب على الجهل فى اوروبا فأعيد رجال الدين الى كنائسهم مع بقية باقية من احترام الناس لهم، فكان ذلك بداية النهضة الأوروبية التى أثرت على الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى العالم كله.
قبل بضعة أيام منح اوباما رئيس الولايات المتحدة صلاحيات واسعة بدون الرجوع الى مجلس الكونغرس، تشتمل على إعلان حالة الطوارىء والأحكام العرفية وصلاحيات أخرى كثيرة تكاد تشمل جميع مرافق الحياة فى البلاد، وذلك بسبب الشعور بأن علامات الحرب مع ايران قد بدأت تلوح فى الأفق، وان الحكومة قد تحتاج الى إتخاذ إجراءات استثنائية فورية بدون الرجوع الى الكونغرس. وتقول مجلة واشنطن تايمز الأمريكية التى ذكرت الخبر فى عددها الصادر يوم 22/3/2012 أن هذه الصلاحيات تجعل من اوباما دكتاتورا شبيها ب بوتين/روسيا وشافيز/فنزويلا.
أميركا الدولة الأولى فى العالم تحتاج الى ديكتاتور إذا ما بدا شبح الحرب يلوح فى الأفق، أليس العراق هو الأكثر احتياجا الى ديكتاتور وهو الذى يعانى من حروب داخلية وخارجية منذ سقوط الحكم الملكي فى عام 1958، وتطورت نحو الأسوأ بعد سقوط صنم بغداد فى نيسان 2003؟
العراق بعد إزاحة النظام الديكتاتوري القمعي السابق دخل معارك جديدة عنيفة على كل الأصعدة الدينية والطائفية والقومية وحتى الاجتماعية، ولكن أمريكا أرادت أن تجعل من العراق دولة ديموقراطية تكون مثالا يحتذى به من دول المنطقة، فارتكبت بذلك خطأ فادحا عاد بأسوأ الضرر على العراق. فقد عادتنا دول المنطقة لخشية حكامها من ثورة شعوبهم عليهم وفقدانهم لسلطانهم، وأساء البعض من العراقيين استخدام الديموقراطية التى منحت لهم ووالتى أضحت وكأنها سلاح خطر بيد أطفال. الديموقراطية للشعوب الواعية التى تفهم الديموقراطية وليس للعراقيين الذين حكمهم الأجانب قرونا عديدة وشجعوا العشائرية كما نشروا الطائفية بمساعدة شيوخ الدين المزيفين، فما ان اندحرت الدولة العثمانية وطرد الأتراك من العراق اثناء الحرب العالمية الأولى إلا ودب الشقاق بين العراقيين حول من يكون ملكا على العراق. ولم تحسم المسألة الا مسز بيل البريطانية فجلبت فيصل الأول الحجازي وهو سني ينتسب الى الرسول فرضي به السنة والشيعة. وانكسرت حدة الطائفية ولكنها لم تختفى بسبب استحواذ السنة على المناصب الحكومية الكبيرة التى رفضها الشيعة فى البداية. وأصبح للشيعة عدد من الوزراء، وانيطت رئاسة الوزراء (ولو شكليا) عدة مرات بشخصيات شيعية بالرغم من استنكار شديد من بعض السنة، فخرجوا من جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني الى شارع الرشيد يضربون الطبول وينادون باسقاط حكومة السيد محمد الصدر.
الديموقراطية لمن يفهمها وليست للجهلاء الذين يشكلون نسبة كبيرة من سكان العراق حيث تتفشى الأمية بينهم ووصل فيه عدد الأميين فى هذه السنة (2012) الى 6 ملايين امي بحسب وزارة التربية العراقية، يضاف اليهم حوالى 40 بالمائة من السكان الذين هم تحت عمر 15 عاما ويعادل 12 مليونا، ويضاف الى ذلك المهاجرين من العراقيين المثقفين من العلماء والأساتذة والأطباء والمهندسين وغيرهم من الأكاديميين، فيبقى عدد ضئيل من المثقفين الذين يمكن أن يساهموا فى إعادة بناء البلد.
العراق فى وضعه الحالي الذى لا يحسد عليه يتقدم ببطىء شديد بسبب النظام الديموقراطي الجديد الذى يطبق فى أمريكا واوروبا دون الأخذ بنظر الاعتبار الجهل الذى يخيم على البلاد وتدخل رجال الدين فى كل مرافق الحياة ومحاولاتهم للحصول على أعلى المناصب السياسية لحكم البلد بطريقة مضى عليها 14 قرنا، إضافة الى سياسيين همهم الحصول على الكراسي بأية وسيلة كانت سواء بانقلاب أو بالاستعانة ببلد او بلدان أجنبية، كما تفعله القائمة العراقية وقائدها الدكتور اياد علاوي. لم تنفك القائمة عن مهاجمة الحكومة ومحاولة اثارة الناس عليها منذ ان أفلت منها منصب رئاسة الوزراء فأصبح ذلك شغلهم الشاغل، وأخذت تطلع علينا أبواقهم النشاز فى كل صباح جديد بتهديدات وانذارات وتهم باطلة، وتعرقل أعمال الحكومة بشتى الوسائل لتبرهن للمواطنين عن عجز الحكومة فى إدارة شؤونهم.
أضف الى ذلك قيام رئيس إقليم كردستان السيد مسعود البارازاني حديثا إغتنام فرصة النزاع بين دولة القانون والقائمة العراقية وأخذ يصب الزيت على النار المتأججة بينهما. وحصلت له فرصة ثمينة عندما هرب المتهم طارق الهاشمي الى الاقليم فوضعه تحت رعايته، وبدأ بمساومة الطرفين للحصول على مكاسب له، ونجح بذلك حيث تقرب اليه الدكتور علاوي الذى زاره فى أربيل فى الاسبوع الماضي ثلاث مرات، وكررا الطلب من السيد المالكي تطبيق بنود ميثاق أربيل بحذافيرها، واتهما المالكي بالتنصل منها. ولاريب (وهذا تخمين منى) بأن الدكتور علاوى وعده خيرا فى ما يخص ضم المناطق المتنازع عليها الى كردستان وغيرها من مطاليب الأكراد، كما وأن السيد البارزاني وعد علاوي ببذل كل الجهود للمساعدة على اسقاط الحكومة والتخلص من المالكي. انا لا أعرف ما جرى عند توقيع الاتفاقية، ولكنى أستطيع التخمين من أن المالكي قام بمناورة ذكية بارعة لتثبيت مركزه كرئيس للوزراء، وهذا الأمر مقبول ومشروع بالنسبة لعالم السياسة الحافل بالمناورات، فخاب أمل منافسيه وأسقط فى ايديهم ففقدوا رشدهم وأصبح همهم الأكبر هو إسقاط الحكومة الحالية بأي ثمن حتى ولو كان يؤدى الى حروب أهلية دموية، وليس هناك أي إحتمال فى تنازل أي من الأطراف عن موقفه او الاعتراف بأخطائه.
كل هذه الفوضى العارمة والتعاسة التى يعيشها شعب العراق تبرر القبول بحاكم ديكتاتوري عادل وشديد ليعيد بناء البلد المخرب، فيعلن حالة الطوارىء والأحكام العرفية ويعطل القوانين، ويعاقب بشدة الذين أولغوا بدماء العراقيين وخربوا البلد، ويطرد الأجانب الذين دخلوا العراق بصورة غير شرعية بعد معاقبتهم، وينفذ الأحكام القضائية وبضمنها أحكام الاعدام خلال شهر واحد من صدورها. واذا احتجت على ذلك المحافل الدولية يرد عليهم بالطريقة التى تتبعها اسرائيل منذ تأسيسها فى عام 1948 حتى اليوم، وهى تجاهلهم تماما بل وحتى السخرية منهم. وبغير ذلك سيختفى العراق من الخارطة بعد صراع طويل مرير وبعد ان تتقاسمه الدول المجاورة ويهجره أهلوه، ولا ينفع حينئذ ندم ولا تقريع ضمير.
- آخر تحديث :
التعليقات