منذ مدة قررت أن أعتزل متابعة السياسة، أن آخذ مسافة منها ومن كل ما يحصل علّني أحضى ببعض الهدوء النفسي من كل ما يعكر مزاجي من أخبار باتت كقصة ابريق الزيت، هي هي نفسها كل يوم. أردت أن أنأى بنفسي عن عالمها علّني أستمتع بقسط من الراحة بعد أن فقدت الأمل في أن أسمع شيئاً جديداً غير المناكفات المعهودة بين أرباب السياسة والغلاء غير الطبيعي للمعيشة في بلد يكثر فقراؤه كل يوم أكثر. قطعت اتصالي مع نشرات الأخبار والصحف اليومية وحتى المواقع الاجتماعية التي تجد فيها الكثير من المتبرعين بتقدّيم خدمة الخبر العاجل مجاناً، ومن دون حتى أن تطلبه.
اليوم ومن دون أي قرار مسبق وجدت نفسي أقطع هذه العزلة، مع أني لم أشتاق لما انقطعت عنه عن عمد. فتحت حاسوبي النقّال، ودخلت الى حسابي على الفايسبوك واذا بي أجد سيلاً من التعليقات التي تدين الافراج عن العميد المتقاعد فايز كرم منها quot;عروضات خاصة للعمداء: اخدم برتبة عميل واحصل على ضعف راتب عميدquot;. مروان ذهب أبعد من ذلك وكتب: quot;صار فينا ناخد ڤيزا عإسرائيل من السفارة الإسرائيلية بالرابية..
انا شخصياً رح قدّم طلب عالجنسيةquot;. أما حسين فكتب: quot;تعامل مع اسرائيل بس ما تتعامل مع القضايا العربية.. منطق المحكمة في لبنانquot;.. ووسط هذه التعليقات التي تدين القرار بالافراج عن العميد المتقاعد كان تعليق يتيم لصديقة عونية حتى العظم: quot;إذا كنتم تعتبرون أن إطلاق العميد كرم هو عمل لا شرعي صادر عن محكمة عسكرية لا شرعية فكيف تقبلون أن يكون توقيفه ومحاكمته شرعيين. فأريحونا من غبائكم واصمتواquot;. استفزتني هذه التعليقات لأعود عن قراري، فالعميد كرم ألقي القبض عليه بجرم التعامل مع العدو الاسرائيلي منذ فترة وجيزة جداً بالمقارنة مع ما يفترض أن تكون عقوبة quot;عميلquot;.
فتحت موقع البحث quot;غوغلquot; كتبت فايز كرم واذا بي أقرأ الخبر اليقين من ووكالة الأنباء المركزية: quot;أطلق سراح العميد المتقاعد فايز كرم اليوم، من سجن الشرطة العسكرية في الريحانية في محيط وزارة الدفاع بعدما أنهى مدة الحكم الصادر في حقه في جرم التعامل مع إسرائيل، مستفيدا من القانون الأخير الصادر عن المجلس النيابي والمتعلق بتخفيض السنة السجنية الى تسعة اشهر، وصدوره في ملحق الجريدة الرسمية أمسquot;.
بغض النظر لأي تيار سياسي ينتمي العميد كرم، فالتيارات السياسية في لبنان سواء، لا يسعك أن تثق بأي منها، فهي ببساطة تلعب لعبة سياسية، والسياسة لا تعترف بالأخلاقيات التي ينشدها الواهمون، أمثالنا. وبغض النظر عن كل الاعتبارات، ولكن انتابني شعور بالضيق والأسف على بلد أصبحت العمالة فيه أمر عادي تنتهي عقوبته بتسعة أشهر، تماماً كفترة انتظار الأم لمولودها.. عجباً الى أي زمن وصلنا، ونحن اللبنانيون نتباهى أننا تقريباً الدولة الوحيدة التي لم تقم علاقات تطبيع مع العدو الاسرائيلي. عندها استحضرني ما كتبه جبران خليل جبران: quot;ويل لامة تكثر فيها الطوائف وتخلو من الدين... ويل لامة لا ترفع صوتها الا اذا مشت بجنازة، ولا تفخر الا بالخراب ولا تثور الا وعنقها بين السيف والنطع. ويل لامة سائسها ثعلب، وفيلسوفها مشعوذ، وفنها فن الترقيع والتقليد. ويل لامة تستقبل حاكمها بالتطبيل وتودعه بالصفير، لتستقبل آخر بالتطبيل والتزمير. ويل لامة حكماؤها خرس من وقر السنين ورجالها الأشداء في أقمطة السرير. ويل لامة مقسمة الى أـجزاء وكل جزء يحسب نفسه أمةquot;.
عندها خالجني شعور بالسأم.. سئمت من هذا البلد الذي بات كل شيء فيه مركب حسب ما تقتضيه المصالح، من بلد كثر فيه الطباخين حتى quot;شاطتquot; طبخته، وكثر الفاخوريين الذين يركبون أذن الجرة كما يريدون.. سئمت أن أرى الشباب ينقادون خلف الساسة كقطيع غنم مسيّر عندما يقول لهم الراعي امشوا يمشون.. توقفوا يتوفقون.. انحنوا ينحنون... سئمت.
التعليقات