تبدو صورة الوضع الحالي لليمن بعيدة تماما عن أوضاع تونس مما يجعل المقارنة منافية للمنطق، لكن المقاربة تنطلق ليس من الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية بل من باب مقاربة بدأت تعيد للأذهان الأوضاع التي شهدتها اليمن عندما فتحت أبوابها لاستقبال المجاهدين العرب العائدين من افغانستان بعد هزيمة القوات السوفيتية.
الصورة في واقعها مختلفة اليوم فعودة المجاهدين لتونس لا تأتي ضمن عودة المنتصرين بل عودة التونسيين المبعدين لتورطهم في الارهاب وجرائم القتل سواء نفذوا عملياتهم في دول مثل العراق والتي يوجد في سجونها عشرات التونسيين المعتقلين بتهمة الانتماء لتنظيم القاعدة أو الذين افرج عنهم ورحلوا من دول أفريقية مثل مالي أو عديد المعتقلين في سجون دول أوروبية ووجدت الفرصة سانحة لترحيلهم والتخلص منهم بعد سقوط نظام بن علي وانعدام مبررات عدم ترحيلهم مخافة التعذيب وانتهاك حقوقهم في السجون.
حقيقة الأوضاع التي تشهدها تونس سواء من خلال ترحيل عشرات من مواطنيها المتهمين بالانتماء للقاعدة أو بتنفيذ عمليات إرهابية وحالة إعادة تشكل المنظومة السياسية للدولة بعد انهيار النظام السابق يجعل من قدرة هؤلاء الافراد على العمل واستقطاب افراد للجماعات الجهادية أمرا ميسرا.
الملاحظ اليوم في تونس ومن خلال ما تقدمه وسائل الاعلام المحلية أن وجود أفراد الجماعات السلفية خرج للعلن وبكثافة مدهشة جعلت الكثيرين يتسائلون أين كان هؤلاء قبل الثورة وأبان المرحلة الأولى التي تلتها.
المفارقة تبدو غريبة في بلد حكم في العهد السابق بمنظومة أمنية حديدية وكانت هذه المجموعات نظريا تحت مراقبته اللصيقة وإن كان واقع الحال ينفي ذلك فتونس في العهد السابق فشلت في مواجهتهم سواء من خلال العمليات التي نفذت على الأرض مثل محاولة تفجير المعبد اليهودي بجربة قبل عشر سنوات او ما اصطلح على تسميته (مجموعة سليمان) والتي وصل الصدام بين هذه المجموعة المسلحة كبيرة العدد ومعهم عناصر مغاربيه لدرجة الاشتباك المسلح لعدة أيام مع قوات الأمن والجيش.
وشهدت تونس ايضا وخلال فترة حكم بن علي انضمام العشرات من الشباب التونسيين لتنظيم القاعدة والتحاقهم به في العراق في مرحلة أولى ثم في شمال لبنان حيث نفذوا ما سمي بعركة مخيم نهر البارد وذلك عبر تجمعهم وتمكنهم من التسلل لهذين البلدين من خلال الاراضي السورية دون ان ينجح النظام التونسي الاسبق بتفكيك هذه الشبكات او ايقاف اعضائها.
نفس المشهد يتكرر في سوريا اليوم رغم صعوبة توصيف الوضع بدقة فحسب وسائل اعلام ومسؤولي النظام السوري قتل واعتقل العشرات من التونسيين خلال المواجهات التي تشهدها سوريا واعتراف هؤلاء بانتمائهم لتنظيم القاعدة ودخولهم سوريا عبر الحدود التركية، والمفارقة الغريبة ان سوريا التي تغاضت عن نشاط القاعدة بعد انهيار نظام صدام حسين وسهلت مرورهم عبر اراضيها للعراق ترتد عليها هذه المجموعات اليوم بنفس منهج واسلوب العنف الذي استعملته من قبل في العراق.
بعض القضايا تثير الكثير من التساؤلات عن سبب هذا الظهور الكاسح لهم فجأة في الشارع وتحول تونس لساحة يتواجدون وينشطون فيها بكل حرية وحجم المشاركة للشباب معهم في هذه المجموعات التي لم تعد تكتفي فقط بالظهور العلني بل تعدته للتظاهر باعداد كبيرة وتنظيم الاعتصامات وتشكيل مجموعات لفرض ما تعتبره الشريعة في بعض المناطق ووصولا لحمل السلاح والتحرك لتنفيذ عمليات ( جهادية ) مثلما حدث في منطقة ( بئر علي بن خليفة ) في صفاقس او محاولة احد رجال الأمن تنفيذ هجوم بحزام ناسف على المعبد اليهودي بجربة.
هذه الحالة تبدو نتيجة طبيعية لمحاولة نظام الحكم السابق في تونس على امتداد عشرين عاما خلق اجيال الشباب الفارغين فكريا أولديهم قضايا تستحوذ على اهتمامهم وتخلق حراكا هم باشد الحاجة اليه لبناء شخصيتهم المستقبلية فكان الاحساس بالفراغ الفكري وفشل الخيارات الاقتصادية وضيق افاق المستقبل من جهة وظهور الحركات الجهادية التي جسدها بن لادن وبعض قيادات من تنظيم القاعدة مثل ابو مصعب الزرقاوي وخاصة بعد احتلال العراق وسهولة الوصول للمواقع والمنتديات اعلى الانترنت التي تبشر بفكر هذه الجماعات المعتمدة على استغلال الفراغ الفكري الذي يعيشه الشباب لتبدا بعمليات غسيل الدماغ والتجنيد لهم وخلقت هذه الحالة في السنوات الست الماضية ظاهرة استحوذت على عقول مئات الشباب الذين وصلوا للعراق عن طريق دمشق ثم انتشروا في عدة مناطق اخرى وصولا الى جنوب الصحراء حيث تنشط القاعدة في مالي وجنوب الجزائر وموريتانيا والصومال.
سياسة نظام بن علي التعليمية والثقافية هي من انتج هذه المجموعات من الشباب الذي سهلت سيطرة هذه المجموعات عليهم، فصار حلم الجهاد والاستشهاد ووعود الجنة اكبر ما يمكن أن يحلم به، ويسعى له، وزادت اوضاع المنطقة وخاصة في ليبيا التي لم تنجح السلطة فيها لليوم أن تسيطر على الوضع في ظل فوضى السلاح وتواجد العناصر السلفية بكثرة في المشهد الليبي وقرب الحدود بين البلدين وحجم العلاقات البشرية المختلطة بينهما، كل ذلك سهل عملية تدريب هذه المجموعات على الاسلحة والمتفجرات في ليبيا ومخاطر ادخالها فيما بعد لتونس وهو حسب المؤشرات التي ذكرتها وسائل الاعلام المحلية قد بدأت بالفعل وتم ايقاف بعض المحاولات لادخال اسلحة.
كيف يفكر شباب هذه المجموعات في ظل انتشار ظاهرة توافد شيوخ الدعوة الاسلامية المتشددين والسلفيين لتونس وقيامهم بجولات وزيارات وخطب في المساجد رنانة تتحدث ضمن منظومتهم العقائدية المطالبة بأسلمة المجتمع وفرض الشريعة وتحويل تونس لارض اللاسلام وقاعدة للجهاد ضد الكفر والذين في كل محاضرة لهم ينجحون في جر عدد جديد من الشباب نحو هذه الهاوية.
هؤلاء الشباب المبهورين بشجاعة الخطب الرنانة لهؤلاء الشيوخ المحذرين لمعارضيهم من عواقب الامور بالدنيا والاخرة والمبشرين لمن يواليهم بجنة فيها كل ما تشتهي الاعين، يساهمون بتحويل الشباب من حالة لاوعي العقل وقدرته على تفسير ومناقشة ما يقولون إلى مفهوم التدمير الذاتي لشخصيتهم، فهم يوصلونهم لقناعة انهم حملة راية الحق المطلق وما يطالبون به يجب ان يتحقق وبسرعة، سواء بالقوة كما بدأت اليوم عمليات فرض ذلك في بعض الاسواق الشعبية بتونس من خلال ما يعتبرونه واجبا شرعيا بالأمر يالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالجهاد في حالة مواجهتهم حيث سينتقلون إلى مرحلة انهم يواجهون قوى الكفر والغطرسة فيصبحون جهاديين يفجرون انفسهم ويحاربون بمنطق دفاع المستميت عما يريدون، وهذا المنطق التدميري للذات يجعل من حياة الأخرين لا قيمة لها او معنى لان الحياة عند اصحاب هذا الفكر فقدت معانيها.
رد الاطراف الرسمية التونسية على هذه المجموعات يبدو أشبه بالعاجز فالوزير الاول التونسي قال قبل أيام ان هؤلاء السلفيين هم أولادنا، وهذا التعريف يحمل في طياته مدلول أن التعامل معهم سيكون ضمن حدود علاقة الأب بابنائه وبالتالي هي علاقة رد فعل وتوجيه من اقتضى الأمر وليست علاقة مواجهة.
ما يجري في تونس ليس خافيا عن أعين العالم فالجميع يراقب ما يجري لانه يتم علنا وحالة الصمت المستغربة وخاصة من الولايات المتحدة التي وصل الحال معها في تونس ان تظاهر عشرات السلفيين امام مقر سفارتها بتونس حامليين صور زعيم القاعدة بن لادن، هذه الحالة قد تخفي موقفا امريكيا يراقب بحذر وربما يحمل في حال انفجرت الاوضاع بشكل دراماتيكي اول تدخل لقوات ( الافريكوم ) والموجودة قواعدها حاليا في المانيا للعمل في برنامج مكافحة الارهاب بالمنطقة تماما كما يجري اليوم في اليمن حيث تشارك القوات الامريكية المتواجدة في منطقة القرن الافريقي وبحر العرب بكثافة مع مواجهة المجموعات الارهابية في اليمن والتي تسيطر على مناطق ومدن باكملها هناك.
الفرق بين الحالتين اليمنية والتونسية أن اليمن بحكم كبر مساحته وطبيعة مناطقة الجبلية الصعبة يجعل المواجهات الجارية على اراضيه بعيدة عن بقية المناطق واشبه بالحكايات بينما الوضع في تونس مختلف جراء الاوضاع الديمغرافية فيها فالمدن في تونس والقرى ملتصقة ومتداخلة مما يجعل من تحرك هذه المجموعات أسهل وقدرات التدخل لمواجهتها اكثر صعوبة وترتفع فيه مخاطر بشكل كبير.
الحالة اليوم تسير بتسارع نحو أما سيطرة هذه المجموعات على الارض في مناطق مختلفة بالقوة مما يهدد استمرار وجود الدولة بمفهومها الحالي وفرض حالة جديدة تتشكل مفاصل وجودها حسب الاوضاع القادمة، واما السير لتصفية هذه المجموعات قبل اشتداد قدرتها على المواجهة اوالانتظار ثم الدخول في صدام مباشر معها يجعل من حجم خسائر الطرفين وخاصة الدولة والمجتمع في تونس أكبر بكثير من قدرة البلد على تحملها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا بما ينذر بعملية انهيار خطير ومتسارع للوضع هناك.
التعليقات