لماذا quot;تؤجّلquot; المعارضة السورية، وسط زحمة المعارضات السورية المتكاثرة؟
لماذا لا تتوحد المعارضات السورية الكثيرة في مواجهة النظام الديكتاتوري الذي لا يزال واحداً ومتماسكاً، على أكثر من صعيد، بعكس ما كان متوقعاً، رغم مرور أكثر من سنةٍ ونيف على قيامة الشعب السوري؟
أسئلةٌ ربما تكون بديهيةً، مقارنةً مع ثورات quot;الربيع العربيquot; الأخرى. ففي تونس ومصر وليبيا واليمن، لم نرَ تشرذماً كالسائد في الحالة السورية، في صفوف معارضاتها. صحيح أنّ هذه المعارضات المتخلفة على أية حال عن شعوبها، لم تحظى بشرف قيام تلك الثورات، أو قيادتها في الأول من اشتعالها، لكنها لم تلعب دور quot;الكابحquot; لها أيضاً.
هي لم تمشِ في البدء أمام الجماهير الغاضبة في تلك الثورات، لكنها لم تمشِ خلف الأنظمة الحاكمة أيضاً.
هي في المنتهى، رغم تخلفها عن الثورة، لحقت بالجماهير، ومسكت بزمام الأمور في الوقت الضائع، ووقفت مع الشعب في صفٍ واحدٍ لإسقاط النظام، كما أراد quot;شعب الثورةquot; له أن يكون، فكان. ثم أنّ العلامة الفارقة لهذه المعارضات التي حسمت أمرها مع الشعب ضد النظام، هي أنها اتفقت على شيءٍ واحد لا بل وحيد، ألا وهو quot;إسقاط النظامquot;، دون الدخول في أية تفاصيل أو جزئيات في المرحلة التالية، ونظام الحكم القادم الذي سيعقبه.
هي اتفقت مع شعوبها على إسقاط الديكتاتورية ودحرها، دون الإختلاف على ما ستليه من quot;ديمقراطياتquot;. هي اتفقت على ضرورة الخلاص من الحاضر الديكتاتوري، دون الدخول في تفاصيل quot;المستقبل الديمقراطيquot;. لذلك بقي كلّ شيء، كان من الممكن جداً الإختلاف عليه، بما فيه شكل الدولة القادمة، مؤجلاً إلى ما بعد إسقاط النظام.
لكنّ الأمر في الحالة السورية، مختلف تماماً، حيث الإختلاف بين صفوف المعارضات السورية، هو أعمق وأكبر بكثير، مما يمكن أن يُتصوّر.
فهذه المعارضات على الطريقة السورية، بقدر اختلافها لا بل خلافها على quot;سوريا quot;الأسدquot; وكيفية إسقاط النظام وأركانه، هي مختلفةٌ أيضاً على quot;سوريا الشعبquot; القادمة، وشكل الدولة السورية، ونظام حكمها القادم.
هذا الخلاف، الذي يمكن وصفه على مستوى أكثر من ملف وقضية بالبنيوي، ليس موجوداً بين أقطاب المعارضات السورية الرئيسية فحسب، وإنما هو خلاف يظهر بين والحين والآخر، ضمن صفوف المعارضة الواحدة أيضاً.
العيون والآذان، سواء في الداخل السوري أو خارجه، كانت تترقب ما سيتمخض عنه اجتماع المعارضات السورية، الذي كان من المزمع انعقاده غداً في القاهرة، تحت رعاية الجامعة العربية وأمينها العام د. نبيل العربي. لكنّ الإجتماع، بحسب مصادر الجامعة العربية، quot;تأجّلquot; بناءً على طلب كلٍّ من quot;المجلس الوطنيquot; وquot;هيئة التنسيقquot;.
فهل الإجتماع تأجل أم المعارضة نفسها quot;تأجلتquot;؟
التصريحات وردودو الأفعال التي صدرت في اليومين الأخيرين، من بعض الشخصيات البارزة في المعارضتين، تؤكد أنّ هذا التأجيل قبل أن يكون تأجيلاً لتحقيق لقاءٍ يجمع بين أطرف المعارضة السورية، هو في أساسه وحقيقته تأجيل لquot;وحدتهاquot; المنشودة.
كلّ من يتابع تصريحات الطرفين، بباطنها وظاهرها، عن كثب، يتساءل هل المعارضة السورية هي معارضة ضد النظام أم هي معارضة ضد نفسها؟
الواضح من قيام وقعود هذه المعارضات، كما تقول مواقفها ومواقفها المضادة، هو أنّ الإتفاق على سوريا إنتقالية واحدة، أو quot;الوحدةquot; فيها، هو آخر ما يمكن أن تفكّر به هذه المعارضات المتناحرات.
لا شكّ أنّ المطلوب من كل أطراف المعارضات السورية المدعوة إلى هكذا إجتماعات ولقاءات، ليس quot;الحلولquot; في هيكل تنظيمي واحد، وإنما هو الدخول في quot;إئتلاف معارضquot; واسع يشمل كلّ أطياف المجتمع السوري، والإتفاق فيه على الخطوط السورية العريضة، للخروج بموقف موحّد، وإرادة سياسية موّحدة، واستراتيجية محددة واضحة موحدة تجاه النظام. المطلوب من المعارضات السورية، إذن، الآن وبعده، هو التوصل إلى رؤية موّحدة حول حاضر ومستقبل سوريا، الذي بات على كفّ أكثر من عفريت، وعلى شفا أكثر من حربٍ أهلية.
لكنّ هل هذا quot;المطلوبquot; ممكن سورياً؟
وهل يمكن أن يُكتب لهذا quot;المطلوب المؤجلquot; النجاح سورياً وإقليمياً ودولياً؟
بإعتقادي، من الصعوبة بمكان التكهن بإمكانية تحقيق هذا quot;المطلوب السوريquot;، أيّ إنجاز معارضة سورية موحدة، راهناً.
فالحديث عن quot;وحدةquot; المعارضة السورية أو quot;إتحادهاquot; في شكلٍ من الأشكال، يعني في المنتهى الحديث عن quot;المؤجلquot; وفيه، فضلاً عن أنه قتل ومضيعة للوقت.
فيه من الوهم أكثر من الحقيقة، ومن التمني والترجي والدعاء والرومانسية أكثر من الواقعية.
أما الأسباب التي تحول دون الوصول إلى هكذا quot;مطلوبٍ مؤجّلquot;، أو هكذا quot;وحدةٍ مؤجلةquot;، لهكذا معارضات في هكذا وضعٍ متفاقم كالوضع السوري quot;المؤجلquot; إلى أجل غير مسمى، فهي تكاد تكون تلك ذاتها الكامنة وراء quot;صناعةquot; هذه المعارضات نفسها.
هذه الأسباب، سواء الداخلية منها أو الخارجية، التي أدت إلى quot;تفريخquot; المعارضات السورية، وشرذمتها وتفريقها وتشتيتها شذر مذر، لا تزال بعد مرور أكثر من 14 شهراً على القيامة السورية، هي هي، تراوح مكانها، دون أن تتغيّر.
فلا النظام تغيّر، ولا المعارضات التي quot;تريدquot; تغييره تغيّرت، ولا الأسباب والعوامل التي جعلتها quot;تعارضquot; على الطريقة المرسومة لها سلفاً، أو صنفتها في خانة المعارضة، تغيّرت.
من هنا، لا يمكن توقع quot;صناعةquot; معارضة سورية موحدة، كنتيجة مطلوبة أو مفترضة، لا من اجتماع القاهرة المؤجل، ولا من إجتماعات أخرى لاحقة ستتأجل على الأرجح أو لن تحدث، طالما أن أسباب quot;كثرةquot; المعارضات السورية، لا تزال كما هي لم تتغيّر.
فكلّ المعارضات السورية، بدون استثناء، ومن ألف قيامها إلى ياء قعودها، باتت رهناً إما لأجندات داخلية(على هوى النظام) أو لأجندات إقليمية ودولية.
هي بدلاً من أن تكون معارضات quot;داخليةquot; موحّدة داخل حدود سوريا، تحوّلت إلى معارضات quot;خارجيةquot;، عابرة للحدود، مرتبطة بأكثر من مشروع لأكثر من دولة، إقليمياً ودولياً.
فأساس الخلاف بين المعارضات السورية، يكمن بالدرجة الأولى في اختلاف العالم، عربياً وإقليمياً ودولياً على سوريا.
الخلاف بين هذه المعارضات، هو خلافٌ على المعنيين من الدول quot;المتدخلةquot; في شئون سوريا، والمختلفين على راهنها وقادمها، قبل أن يكون خلافاً بين السوريين أنفسهم على سوريا نفسها.
فمثلما تعوّل مجموعة quot;أصدقاء الشعب السوريquot; وعلى رأسها أميركا وأوروبا وتركيا ودول مجلس التعاون الخليجي على quot;المجلس الوطني السوريquot;، تعوّل مجموعة quot;أصدقاء النظام السوريquot; وعلى رأسها روسيا والصين وإيران وquot;لبنان حزب اللهquot; وquot;عراق المالكيquot; على quot;هيئة التنسيق الوطنيةquot;.
سوريا إذن، لم تعد قضيةً سورية، تعني السوريين فقط، وإنما تحوّلت منذ الأشهر الأولى من ثورتها، إلى قضية إقليمية ودولية بإمتياز.
تركيا على سبيل المثال لا الحصر، تدخلت في سوريا عبر صناعتها لبعض معارضتها، ليس من باب الحرص على سوريا، وأنما من باب الخوف على نفسها، وخشيتها من أن تتحول مشاكل الداخل السوري إلى مشاكل في داخلها. لهذا كانت لا بدّ لمشكلة سوريا، أن تكون quot;مشكلة تركيةquot;، كما أعلن المسؤولون الأتراك ذلك مراراً.
وإنطلاقاً من هذه القناعة التركية، دخل الأتراك سوريا عبر شباك quot;معارضة سوريةquot; مفصّلة تركياً، كي لا يفرط العقد السوري، وألاّ تنتقل عدوى المشاكل السورية مستقبلاً إليهم، لا سيما مشكلة الأكراد الذين يتجاوز تعدادهم في تركيا أكثر من 18 مليون نسمة، محرومين من كافة حقوقهم القومية والثقافية والسياسية.
والحالُ فإنّ البحث في quot;وحدةquot; المعارضات السورية الخارجة من تحت أكثر من quot;إبطٍquot; داخلي أو خارجي، هو بحث في الوهم وعنه، أكثر من أن يكون بحثاً عن الحقيقة وفيها.
فلا يمكن الحديث عن وحدة بين ضدين كquot;المجلس الوطنيquot; وquot;هيئة التنسيقquot; مثلاً، لأنّ وبكل بساطة ما يفرقّهما أكبر بكثير مما يجمعهما.
ففي الوقت الذي يصف الأول نفسه بأنه الممثل الشرعي الوحيد للشعب السوري، والمظلة السياسية للثورة، ويرفض الدخول في أيّ حوارٍ مع النظام القاتل، ويدعو لإسقاط النظام بكلّ أركانه، ويطالب بالتدخل الخارجي بما فيه التدخل العسكري، ويسعى لعسكرة الثورة من خلال تسليح quot;الجيش السوري الحرّquot;، نرى quot;هيئة التنسيقquot; على العكس، لا تزال تتمسك بquot;لاءاتها الثلاثquot;(لا للطائفية، لا للعنف، لا للتدخل الخارجي)، وتقبل بالجلوس مع النظام والحوار معه، علماً أنها لا تضع كلّ أركان النظام في سلةٍ مهملة واحدة.
ثم لا ننسى أنّ الغالبية الساحقة من أعضاء فوق المجلس وتحته، المحسوبين على quot;جناح الصقورquot; يرفضون حتى فكرة الجلوس مع أهل quot;هيئة التنسيقquot;. لا بل أنّ البعض الأكثر من quot;صقور المجلسquot; يعتبر الجلوس مع quot;هيئة التنسيقquot; جلوساً مع النظام، وهذا ما يتعارض مع الأساس الذي تأسس عليه المجلس، ويتناقض مع ميثاقه الوطني.
كلاهما يرفض الآخر، ويهرب منه ويتهمه على طريقته الخاصة.
فمثلما quot;الهيئةquot; متهمةٌ لدى quot;معارضة إسطانبولquot; بالتبعية والدوران في فلك النظام وأصدقائه، كذا quot;المجلس الوطنيquot; متهم لدى quot;معارضة دمشقquot; بالتبعية لتركيا وحليفاتها.
فلا هذا يقبل بتلك، ولا هذه تقبل بذاك.
المعارضات السورية، صُنعت على ما يبدو، لا لتتحد وإنما لتتفرّق، ولا لتتفق على سوريا موحدة، وإنما لتختلف في أكثر من سوريا، ولا لتنجز الوحدة، وإنما لتؤجلّها.
المعارضة السورية، مشروع quot;وحدة مؤجلةquot; إلى سوريا غير مسماة.
كلّ شيء في سوريا بات مصيره التأجيل: سوريا تتأجل، والنظام وسقوطه يتأجلان، والشعب يتأجلّ، والثورة تتأجّل، والمعارضة تتأجل، والدم والدم المضاد يتأجلاّن، والأصدقاء والأعداء يتأجلون.
أخشى ما أخشاه أن تتحوّل سوريا من مشروع quot;شعبٍ يريد إسقاط النظامquot;، إلى مشروعٍ لquot;إسقاط سورياquot;، في quot;دولةٍ مؤجلّةquot;، أو quot;وطنٍ مؤجلquot;، بquot;ثقافة مؤجلةquot;، وquot;سياسةٍ مؤجلةquot; وquot;اجتماعٍ مؤجلquot;.
التعليقات