جلسة سمر مسائية لطيفة ببلدة عينكاوة المسيحية جمعتني بمجموعة رائعة من الأصدقاء يتقدمهم صديق العمر وزميلي بالصحافة منذ الصغر الدكتور سعدي المالح،والاستاذ فاروق حنا مدير متحف التراث الشعبي السرياني وشقيقه المحترم،الى جانب عدد من المثقفين من أعضاء الجمعية الثقافية. وعلى وقع تبادل الأنخاب ومشاعر الود التي بدأنا نفتقدها في حاضر زمننا هذا، بعد أن جمعنا نحن المسلمين الكرد وإياهم وطوال عقود وقرون أواصر المحبة والعيش المشترك والثقافة المتداخلة،وتشاركنا حتى في الملبس والتقاليد والقيم الإجتماعية، لا يفرقنا سوى اللغة التي نتكلم بها، حتى تلك اللغة المختلفة لم تكن تفرقنا كثيرا، فقد إضطروا وبحكم كونهم أقلية تعيش في ظل أكثرية كردية، الى تعلم لغتنا منذ نعومة أظفارهم، ولذا كان من الصعب جدا أن تعرف إنتمائهم الديني إلا من أسمائهم المميزة،أوعندما تطلع على هوياتهم للأحوال المدنية، والتي ينفرد مجتمعاتنا الإسلامية من دون جميع مجتمعات العالم بإدراج ديانة المواطن بهويات أحوالهم الشخصية إمعانا في التفريق بين الديانات.

حتى في إطلاق الأسماء على مواليدهم، بات إخواننا المسيحيين في عينكاوة يختارون أسماءا كردية وعربية لتسمية أبنائهم على رغم إختلافهم القومي، فشاعت أسماء مثل سوران وكاروان وجودت وفؤاد وغيرها،وهذا ما دعاني في لقاء صحفي مع مدير متحف التراث السرياني الإستاذ فاروق أن أتساءل عن إطلاق لقب الخليفة الإسلامي الثاني عمر بن الخطاب عليه، لكنه وضع حدا لتساؤلي في تلك الجلسة اللطيفة، حين أكد لي بأن أصل إسم ( فاروق) مسيحي وهو quot; باروقة quot; وكان متداولا في بيت المقدس منذ زمن بعيد.

بعد أن تطرقنا الى العديد من المشتركات واستعدنا ذكريات حلوة عن أيام زمان، وتحدثنا عن أجواء الستينات، وهي بنظري العصر الذهبي في العراق وعموم المنطقة والعالم أيضا قبل أن تتهدم مجتمعاتنا بسبب التعصب الديني، وتتفسخ بالنعرات الطائفية جراء تدخل الدين في السياسة وما خلفها من مفاسد كثيرة، رويت لهم علاقاتي الشخصية بالعشرات من إخواننا المسيحيين الذين كانوا يختلطون بنا في الأسواق والحافلات ودوائر الحكومة، حتى أنني صادفت في تلك الفترة بمراسيم تعزية أحد أعمامي حضور أحد قساوسة عينكاوة الى مسجد محلتنا وتقديمه التعازي لأبي رحمه الله، وكم كان قاريء القرآن رائعا حينما تلا سورة quot; مريمquot; بصوته العذب بحضور القس، فأدمع عيني تأثرا بمشهد القس الوقور الذي كان يستمع بخشوع الى تلك التلاوة.

سألت مضيفي الإستاذ فاروق سؤالا سبق أن وجهته الى صديقي الإستاذ يونادم يوسف كنا رئيس الحركة الديمقراطية الآشورية في مناسبة أخرى عن أسباب عدم توصل الإخوة المسيحيين الى إتفاق على إسم محدد يجمعهم، خاصة وأنني بحكم عملي الصحفي أواجه دائما معضلة كبيرة في نقل أخبارهم ونشاطاتهم أوقعتني كثيرا في مشاكل وإحتجاجات البعض منهم، فلا أعرف بماذا أعرفهم، هل هم كلدان أم آشوريين أم سريان.وسألته إن كانت هناك قومية محددة تجمعهم فمن المفترض أن يعرفوا بها، أما إذا كان الجامع بينهم هو الدين وهو الأصح عندي، يفترض أن يسموا مسيحيين بغض النظر عن إنتمائهم القومي، فكانت إجابتهمquot; أنهم مسيحييون فعلا، ولكن لهم كنائس مختلفة، وتعذر عليهم توحيد الكنيسة بحكم الواقع المفروض عليهم منذ زمن بعيد، كما تعذر عليهم التوحد تحت خيمة قومية واحدة، لأنه ليس بينهم من يتنازل ولو قليلا عن إنتمائه القومي لصالح الآخر!!

إنهم عراقيون، وحال العراقيين منذ الأزل هو التشرذم وعدم التلاقي حتى في المشتركات، فالعراقيون شعب عجيب إستشكل حالهم حتى على الإسكندر الكبير عندما إحتل بلادهم عام 331 قبل االميلاد بعد إنتزاعها من الإمبراطورية الإخمينية ودحر داريوش الثالث. فعندما وصل الى عاصمة الفرس بابل، وجد فيها شعبا ناقما على الدوام متمردا لا يرضى عن حاكم حتى لو كان بمقام الآلهة، ولهذا كتب الى معلمه أرسطو يطلب منه النصح والإرشاد لكيفية التعامل مع هذا الشعب الغريب العجيب، حتى أنه إقترح في رسالته الى معلمه أن يغير هذا الشعب بشعب آخر يأتي به من بلاد أخرى. فنصحه أرسطو بعدم فعل ذلك،لأن أي شعب يستقدمه الى هناك سيكونون مثله، لأن العلة ليس في ذلك الشعب، بل العلة في هواء بلدهم؟

لا أدري مدى حقيقة تلك الرسالة والحادث عموما، وما إذا كانت من الأساطير أو هي من نسج الخيال للنيل من العراقيين، ولكن يبدو أن الحجاج بن يوسف الثقفي قد تلقى تلك الرسالة عندما بنى حاكميته على العراق في العصر الأموي بقطع مئة وعشرين ألف رأس أينع من العراقيين وحان في عهده وقت قطافها، وكذا فعل دكتاتور العراق صدام حسين عندما ذبح مئات الآلاف من معارضيه وشرد الملايين منهم في المنافي، واليوم يريد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن يعيد نفس التجربة بتنصيب نفسه دكتاتورا جديدا على العراق، فكما يبدو أن تلك المقولة التي تتردد دائما بكون العراق لا يستطيع حكمه إلا دكتاتور تكاد تكون صحيحة وواقعية، بدليل أنه مع سقوط صدام حسين وهبوب نسائم الحرية وظهور الديمقراطية في العراق بدأت الإنقسامات تطل برأسها. فالشيعة تفرقوا الى شيع، والسنة إختلفوا فيما بينهم حتى تذابحوا، وإنقسمت كردستان تحت نفوذ الحزبين الرئيسيين الى جماعات وأحزاب شتى، وإنتقل وباء التفرق والتباعد الى الأخوة المسيحيين أيضا، فظهرت عندهم أحزاب ومنظمات تتأثر بصراعات الكنائس العالمية،الشرقية والغربية، الكلدانية والأرثوذكسية، السريانية والآشورية، فتشرذمت أحوالهم رغم قلتهم.

عندما ناقشتهم بضعف قوتهم وهم قلة قليلة وسط محيط من المسلمين وأحزابهم العملاقة في العراق،وضرورة توحدهم ليشكلوا قوة معا، أكدوا لي بأنهم يشعرون فعلا بالمخاطر المحدقة بهم، وهذا الضعف هو الذي همشهم في مراكز القرار السياسي، وساعد تفرقهم وضعفهم المنظمات الإرهابية لإستهدافهم ومحاولة طردهم من ديارهم، حتى وصل الأمر بتلك المنظمات الإرهابية الى حد تطهيرهم وإجلائهم تماما من العراق، ردوا بأن الأمر ليس بأيديهم بل بيد الكنيسة.

إنهم يكررون نفس التجربة المريرة التي خضناها نحن الأكراد عبر تاريخنا الطويل، وأضعنا معها حقنا بالحصول على كيان قومي ودولة موحدة مثل سائر شعوب وأمم الأرض، فتقسمت بلادنا بين أربع دول، وحرمنا من ممارسة حقنا بتقرير المصير بسبب خلافاتنا التي تتجدد يوما بعد يوم رغم وجود العديد من المشتركات بيننا، ولا أتحدث هنا عن وحدتنا القومية مع أشقائنا الكرد في الدول الأخرى ( إيران وتركيا وسوريا) بل أتحدث عن إتفاقاتنا الإستراتيجية هنا في كردستان العراق والتي تحولت الى مجرد حبر على الورق، حتى تجرأ علينا نوري المالكي الذي أصبح أكثر عنصرية وشوفينية من العروبيين والقومجية العرب،برغم أنه شرب من مائنا وأشركناه بخبزنا.

يقول السيد المسيح حسب إنجيل متى الاصحاح 23 متحدثا لتلاميذه عن الكتبة والفريسيون قائلاquot; إنهم يحزمون أحمالا ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم.وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس.فيعرضون عصائبهم ويعظمون أهداب ثيابهم.ويحبون المتكأ الأول في الولائم، وأما أنتم فلا تدعوا سيدي لأن معلمكم واحد المسيح وأانتم جميعا أخوة.ولا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات. ولا تدعوا معلمين لأن معلمكم واحد المسيح. وأكبركم يكون خادما لكم. فمن يرفع نفسه يتضع ومن يضع نفسه يرتفعquot;.
اذن هل آن الأوان للقيادات المسيحية أن يتضواعوا لكي يرتفعوا؟

[email protected]