تتعقد الأزمة السياسية التي أحدثها سلوك رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يوما بعد آخر،وتلقي بظلالها على العلاقة التاريخية والنضالية المشتركة بين الشيعة والكرد اللذان كانا عبر العقود الماضية من أبرز ضحايا النظام الدكتاتوري السابق. وتشغل هذه الأزمة ليس العراق وحده، بل تنسحب تأثيراتها على مستوى دول المنطقة من خلال محاولة المالكي جر الأطراف الإقليمية الى خضم صراعه مع قيادة إقليم كردستان، بل أنه يحاول إقحام دول أخرى في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بصراعه الحالي، وتجلى ذلك بمحاولاته المستميتة لمنع الإدارة الأمريكية من إستقبال الزعيم الكردي مسعود بارزاني، وثم ضغطه على تركيا وإعلان الحرب الإعلامية ضدها، وأخيرا زيارته الى إيران للحصول على دعمها في مواجهته مع بارزاني، ورغم أنه فشل في تحقيق أمانيه مع أمريكا وتركيا، لكنه نجح بثمن مدفوع مسبقا من إقناع إيران بدعمه، وكان الهجوم غير المسبوق الذي شنته فضائية quot; سحر quot; الرسمية على بارزاني قبل أسابيع دليلا واضحا على إنسياق إيران وراء المالكي حفاظا على مصالحها الحيوية في العراق..
لا أحد ينكر التوجهات الدكتاتورية للمالكي والتي بدأت تراوده منذ نجاحه بإسقاط منافسه على الحكم الدكتور أياد علاوي عبر الإستقواء بإيران، وأخذته العزة بالتفرد الى حد إحكام سيطرته المطلقة على الكثير من المفاصل المهمة في الدولة السائبة التي تدعى العراق الجديد،في مقدمتها الجيش ومؤسسات الإستخبارات ثم الأجهزة الأمنية، وأخيرا المؤسسة المالية،وأخذ يستخدم سلاح النفط في كسب الدول ومعاقبة بعضها التي تمانع السير بركابه، مثل حرمان شركة إكسون موبيل النفطية من التعاقد مع العراق، لأن تلك الشركة تتعامل مع إقليم كردستان، في حين أن الصناعة النفطية المتهالكة في العراق بحاجة ملحة الى زج الشركات العالمية العملاقة بمشاريع التحديث وتنويع المصادر، والإستغلال الأمثل للثروات الطبيعية للعراق، فهذا البلد من دون الثروة النفطية لا تساوي جناح بعوضة، لأن القطاع الصناعي في العراق مدمر بالكامل، والقطاع الزراعي أصبح في خبر كان بعد الإعتماد الكلي للغذاء العراقي على مستوردات دول الجوار وإيران في مقدمتها، والقطاع السياحي أصبح متهالكا أكثر من ذي قبل، ولم يعد هناك قطاع يمكن أن يبشر العراقيين بخير في قادم أيامهم بعد نضوب نفطه.
هناك دول عديدة تعتمد ميزانياتها على القطاع السياحي، كما هناك دول أخرى تبني إقتصادها على أساس تصدير الفائض الزراعي،ولا نريد أن نتحدث عن دول كانت تحتل ذيل القوائم للدول الأكثر فقرا، وإذا بها اليوم تصدر الماكينات والسيارات والأجهزة الكهربائية الى دول العالم منها العراق الذي يعوم على بحور من النفط وثروات الطبيعة.
رغم هذا الواقع المأساوي يريد المالكي أن يخرب البلد أكثر مما هو خراب، وذلك بإحداث حرب حقيقية مع الشعب الكردي، قد لا تختلف في عناوينها عن الحروب العنصرية التي شنتها الأنظمة الدكتاتورية السابقة، حتى أن المالكي أخذ يشحذ همته مع الإعلام الرخيص المستعد لبيع شرفه من أجل حفنة من الدولارات المسروقة من المال العام لإستخدامه في حربه القادمة مع كردستان. فنرى في الكثير من وسائل الإعلام حربا إعلامية حقيقية موجهة ضد القيادات الكردية، بل أن شعراء النظام المالكي بدؤا يتسابقون على نظم القصائد بتحقير تلك القيادات.
هذا التوجه المرعب من المالكي لا يختلف بطبيعته عن السياسات التي كان دكتاتور العراق الأرعن يمارسها ضد الشعب الكردي، وهو النظام الذي حاربه المالكي وحزبه وطائفته وشعبه برمته، فقد كان صدام حسين يستخدم كل قوته وإمكانياته في حربه ضد كردستان، ولم يتوان حتى عن إستخدام أبشع وسائل القتل والإبادة بما فيها إمطار كردستان بالقنابل الكيمياوية في مواجهته الحالية.
صدام عندما فشل في مواجهة البيشمركة على الأرض، أرسل طائراته ليمطرهم بالغازات الكيمياوية، وقصفت طائراته المقرات الرئيسية للأحزاب الكردية بالجبال، وها هو المالكي ينتظر وصول طائرات اف 16 ليستقوي بها ضد الكرد.وهناك تصريحات تنسب اليه بأنه عندما أبلغه بعض أعوانه والضباط المقربين منه إستعدادهم لإحتلال المقر الرئاسي بمصيف صلاح الدين، طلب منهم التريث لحين وصول الطائرات الأمريكية التي تعاقدت حكومته عليها، وهذا يدل على وجود نية مبيتة لديه بضرب كردستان مرة أخرى بالطائرات.ولكنه ينسى أو يتناسى أن طائرات الميغ والميراج التي كان النظام الصدامي يمتلكها لم تخف الشعب الكردي، ولم تنه ثورته التحررية، فإن الطائرات الأمريكية أيضا لا تستطيع أن ترغم القيادة الكردية على الإستسلام له، وكان الزعيم الكردي مسعود بارزاني واثقا من هذه الحقيقة عندما قال في مؤتمر للتجمع العربي لنصرة القضية الكردية، أن الخشية من العقلية التي تدير العراق حاليا، وليس من الطائرات الأمريكية التي لا تخيف الشعب الكردي.
للضغط على القيادة الكردية فرض صدام حسين حصارا إقتصاديا مزدوجا على كردستان بعد أن سحب قواته وإداراته منها نهاية عام 1991، فما الذي يمنع المالكي من ممارسة ضغط مماثل على القيادة الكردية بالإمتناع عن صرف الميزانية المخصصة لكردستان، وهي الميزانية التي تعتمد رواتب الموظفين والعاملين بالحكومة على نسبة 70% منها، وهذا بحد ذاته يعني قتل الشعب الكردي جوعا.
الصراع الحالي لم يعد صراعا خاصا بكردستان، فمعظم الكتل السياسية العراقية إستشعرت هذا الخوف من تحولات المالكي نحو المزيد من السيطرة الدكتاتورية، والحل إما أن تنفجر ثورة عراقية جديدة بوجه هذا الحاكم المستبد، وإما أن يرعوي ويعود الى صوابه ويمتثل لواقع فرض على العراق وهو وجود شركاء له في الحكم من السنة الذين همشهم المالكي بإستبعاد العراقية وغيرها من القيادات السنية عن الحكم، والكرد الذين أعلن الحرب ضدهم بشكل غير مسبوق منذ سقوط النظام السابق.
أمام المالكي خياران لا ثالث لهما، الأول الإستمرار في نهجه الدكتاتوري وإنتظار مصيره المحتوم بسقوطه ونظامه، كما سقطت أنظمة الحكم الدكتاتورية الواحدة تلو الأخرى بثورات الربيع العربي، والخيار الثاني هو التعقل والعودة الى الصواب بقبول الأمر الواقع بإشراك شركائه في الحكم ليكون العراق تلك الدولة التي ضحى من أجلها العراقيون برمتهم وقدموا دماءا عزيزة على مذبح مواجهة الأنظمة الدكتاتورية.
- آخر تحديث :
التعليقات