أرسي الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك دعائم الدولة التركية الحديثة علي النظام العلماني منذ ثماني عقود، ويجهل كثيرون في عالمنا العربي والإسلامي طبيعة المرحلة التي مرت بها تركيا طوال هذه العقود حتي ظنوا أن المجتمع التركي تعلمن إلي الحد الذي لم يعد مقبولا حياله الحديث عن الإسلام أو الفكر الإسلامي السياسي. وقد وقعت في تركيا ثلاث انقلابات عسكرية علي أثر الصراعات الداخلية وإصرار الجيش علي رعاية الفكرة العلمانية في البلاد ولو بفرض القوة. وحدث ذلك أعوام 1971، و1980، و1997.

ومع هذه الانقلابات التي عمقت الخلاف بين القوميين واليساريين من جهة وبين اليساريين والقوميين والإسلاميين من جهة أخري، عاش المجتمع التركي في صراعات نفسية وأيدولوجية كبري خرج من رحمها شباب إسلامي واع، آمن بالفكرة الإسلامية، واعترض علي فكر استاذهم نجم الدين أربكان، فأسسوا حزب العدالة والتنمية، وراحوا يخططون لشئ واحد هو هزيمة المؤسسة العسكرية عن طريق الانقلاب الدستوري، ورأوا أن هذا هو السبيل الوحيد لتأسيس دولة تركية عصرية تؤمن بالفكرة الإسلامية، وتصدق الساسة الإسلاميين وتؤمن بقدراتهم.

من هؤلاء الشباب الطيب أوردغان الذي قال لأنصاره عام 1999 وهو في طريقه إلي السجن سأستغل هذا الوقت لمذاكرة كل المشروعات التي تنطلق ببلادي إلي الألفية الثالثة، وأوصاهم أن يستغلوا هم أيضا أوقاتهم ليكونوا صنّاع ماهرين، وحرفيين بارعين، ومحامين منصفين، وعلماء مبتكرين. وحذرهم من أن يعترضوا طريق سياسي اختلف معهم في فكرة، أو رأي بل أوصاهم بما هو أشد قائلا: إذا مررتم بحزب معارض فطأطئوا رؤوسكم واعلموا أننا جميعا شركاء في الوطن، ولن ينهض الوطن إلا بنا معا.

وبهذا الفكر وهذه الأخلاق استطاع أوردغان ورفاقه عبدالله جول وأحمد داوود أوغلوا أن ينتقلوا بتركيا من الضيق إلي الرخاء، حيث بنوا أساس الإيمان بهم وبفكرهم علي القاطرة الاقتصادية، فوفقا لتقرير تركي أعدّه quot;كريم بلدجيquot;، فقد حققت صادرات تركيا أرقاما قياسية و هي تحطّم الرقم تلو الآخر و وصلت الى 100 مليار دولار، و قد نما الناتج المحلي الإجمالي خلال الأربع سنوات و نصف من 181 مليار دولار ليصل الى 400 مليار دولار.

امّا معدّل الدخل الفردي فقد ارتفع من 2589 دولار للفرد عند مجيء حزب العدالة و التنمية للحكم الى حدود 5700 دولار. و بينما كان النمو الاقتصادي في تركيا يشكل نسبة 2.6% منذ الأعوام 1993 و حتى العام 2002، فقد ارتفعت هذه النسبة بشكل هائل و مضاعف و سريع تجاوز 8% عام 2011 وذلك وفقا للتقريرالذي أعده صندوق النقد الدولي لاجتماع نواب مجموعة العشرين2012.

ووفقا لتقرير صادر عن مركز quot;ستراتفورquot; فإنّ الاقتصاد هو احد أهم العوامل التي ستسمح لتركيا باستعادة دورها الاقليمي الذي كان سائدا قبل 90 سنة. ففي عام 2006، حققت تركيا المركز الـ 18 للدول الأعلى نموا في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي، و قد حققت نموا مستمرا بين 5 و 8 % في السنّة لأكثر من خمس سنوات حتى الأن، لتحل خلف بلجيكا و السويد مباشرة.

و يشكّل الاقتصاد التركي بحسب التقرير اكبر اقتصاد إسلامي على الإطلاق متفوقا بذلك حتى على حجم الاقتصاد السعودي، مع الأخذ بعين الاعتبار انّ تركيا حقّقت ذلك دون انضمامها إلى الاتحّاد الأوربي، و لنا ان نتخيّل قدرتها اذا ما تمّ قبولها فيه.

تركيا ليست الصين من الناحية الاقتصادية، و لكنها بالتأكيد تشكّل أكبر اقتصاد في شرق المتوسط، جنوب شرق أوروبا، الشرق الأوسط و منطقة القوقاز، كما انّ الاقتصاد التركي بات يشكّل الاقتصاد الاقليمي الأكثر ديناميكية و قيادية. و اذا ما اضفنا الى كل هذا موقع تركيا الجغرافي و دوره في ان تضم تركيا اكبر شبكة نقل و مرور للطاقة في العالم، فان التحليل يقودنا الى انّ دور تركيا في تعاظم مستمر و يتجه نحو استعادة حالته التاريخية و ان بشكل بطيء. هؤلاء هم الساسة الإسلاميون في تركيا فهل يتعلم الآخرون في بلادنا؟

[email protected]