لم يكن متوقعا أن يصمد نظام بشار الاسد كل هذا الوقت في وجه ثورة الشعب السوري التي تتكثف فيها أحد أهم الاجابات عن سؤال الحرية في المنطقة العربية، كان مستبعدا تماما أن يقتل بشار الاسد أكثر من اثني عشر ألفا من مواطنيه أمام مرأى العالم، وأن يجتاح مدنا وقرى ويدمرها على رؤوس سكانها دون أن يجد من يلجمه أو يحد من جرائمه التي فاقت كل تصور. فما الذي ميز الربيع العربي في سورية حتى استطاع نظامها الاستمرار طويلا في معركة صعبة هي ضد الشعب وضد حركة التاريخ وقوانينه في ان معا ؟. لان العوامل المسببة لذاك المشهد كثيرة، بعضها ذاتي مغرق بالتعقيد، وبعضها موضوعي ليس أقل تعقيدا، ستركز هذه السطور على الجانب المتعلق بالمعارضة السورية التقليدية ودورها في تعقيد الوضع الثوري الذي تعيشه سوريا و شعبها هذه الايام.

إن من يعرف المشهد السياسي السوري السابق على الثورة جيدا، يستطيع أن يخلص إلى أن سلبية المعارضة التاريخية للنظام السوري، سواء تلك المنضوية في المجلس الوطني السوري، أو في هيئة التنسيق، أو حتى القوى التي تقع خارجهما تنبثق عن بنيتها المتبلورة، وفقا للواقع الافتراضي التي كانت تنشط فيه قبل الثورة، حين اقتصر معظم نشاطها خلال العقد الذي ورث فيه بشار الاسد السلطة عن ابيه، على صفحات الإنترنت و عالمها الافتراضي، فلم يتح لها اختبار خطاباتها السياسية كما يجب، ولم تستطع فتحها على العملي واليومي والواقعي، لقد انحبست السياسة في وعيها، على المقولات الكبرى والفكر السياسي المكتنز أيديولوجيا، والمعبر عنه في واقع الكتروني ليس إلا، مفتقدة القدرة على نحت المسارات العملية القادرة على مواكبة متطلبات إدارة الواقع والوفاء بمستلزماته، لذلك كان طبيعيا أن تفشل المعارضة السورية أثناء الثورة في ضبط سياساتها على الابعاد العملية والممنهجة، الحسابية والبراغماتية، للسياسة و العمل السياسي. ليبقى البعدين، الايديولوجي المغلق و النظري دون العملي، لتفاعلها مع الواقع الثوري، مضافا اليهما الصراع السياسي المبكر والمراهق على سورية ما بعد الانتصار المأمول على النظام السوري، من أهم العوامل التي دفعت بالمعارضة، أثناء تعقد الاحداث و تداخل مستوياتها وأطرافها، كي تصبح أكبر و أكثر قوى العطالة الذاتية إعاقة للثورة السورية.

فالذي ساهم بشكل ملموس في إضعاف استعداد العالم للتدخل من أجل حماية الشعب السوري، ليس الوضع المجتمعي المطيف لسوريا و تداعياته المحتملة اثناء و بعد التغيير، وليس النظام وتحالفاته الداخلية و الاقليمية و الملفات المعقدة التي ينخرط فيها، وليست أوضاع القوى الدولية الرئيسية التي يعاني بعضها اقتصاديا وينتظر بعضها الاخر استحقاقات انتخابية مفصلية، وليست البيئة الدولية ذات الملامح الجديدة التي تبدو روسيا فيها، أكثر استعدادا وطموحا لممارسة دور الدولة العظمى، ليس كل ذلك وحسب، بل أيضا سلوك المعارضة السورية ومواقفها، لقد رفض غالبيتها التدخل العسكري الدولي حتى ولو كان لمصلحة الثورة وحماية الشعب، لم يأل جهدا سياسيو هيئة التنسيق ومعهم أبرز الفاعلين في المجلس الوطني، في إبلاغ حكومات العالم المتحكمة بصناعة القرار الدولي رفضهم لذلك التدخل، بحجة سيادة سورية التي تناقضت في وعيهم مع مساعدة شعبها على حريته واستعادة سيادته المسلوبة على وطنه و قراره. العمل من أجل التدخل لحماية المدنيين في سورية إنما كان يتطلب من المعارضة السورية التقليدية، ومنذ البداية، خلع العباءة الايديولوجية ومعها السمات والدلالات الساكنة والمفوتة للوعي بمفهوم السيادة، والعمل الحثيث تاليا على اقناع المجتمع الدولي بضرورة وجدوى ذلك التدخل، سواء بالنسبة لسوريا أو حتى للمنطقة والعالم، فقد تستطيع القوى الدولية حينها أن تكون أكثر حزما مع النظام و أكثر استعدادا لمواجهة معوقاتها الذاتية والتعقيدات المحلية والإقليمية المتوقع حصولها إثر حصول التغيير في سورية.

لم يقتصر الاثر الرديء للمعارضة السورية عند هذه الحدود، بل أدت خلافاتها البينية وقراءاتها المختلفة لحقيقة الوضع في سورية،ولنوع النشاط الثوري الواجب الالتزام به، الى ترك الساحة أمام النظام، بل ومساعدته على تشويش صورة الثورة والتشكيك بالقوى القائمة عليها والداعمة لها في نظر قوى دولية رئيسية، بما صب في مصلحة السلطة القمعية، وسمح لها في مرحلة لاحقة أن ترفع سقف عنفها الى درجة لم يتوقعها أحد. إن المجلس الوطني السوري الذي كان حريا به أن يعطي الاشارات لروسيا والصين بوجود مكونات علمانية كبيرة وفاعلة بين صفوفه، وأن لا صحة لما يشاع عن سيطرة الإسلاميين المتشددين على عضويته وهياكله، والمجلس الوطني الذي كان عليه أن يفتح خطا ساخنا مع الروس والصينيين لكي يعمل على تفنيد الرواية الرسمية للنظام عن الثورة والمؤامرة والعصابات المسلحة، وأن يدخل وبقوة على خط العلاقات العامة مع الدوائر الاستشارية والقريبة من صنع القرار في كلتا الدولتين، وأن يدعم الجالية السورية المقيمة فيهما من أجل المساعدة في العمل على هذا الملف، بقي متفرجا و لم يحرك ساكنا، بل لم يستطع أن يفعل شيئا و قد سطا عليه و شل معظم جسمه السياسي واختزله، مكتبه التنفيذي الذي اقتصرت ممارسته للسياسة على زيارة الحكومات و إجراء اللقاءات الاعلامية، تاركا لأجهزة النظام وآلته الدبلوماسية والسياسية فرصة العمل ليل نهار وعلى كافة الصعد و المستويات لكسب الموقف الروسي والصيني، وقد تم لهم ذلك، الامر الذي منح النظام الغطاء المطلوب للعنف والتوحش الذي لجأ اليه لقمع الثورة. هيئة التنسيق هي الاخرى وبدلا من أن تلعب دورا يصب في كبح عنف النظام السوري وإجرامه، تسببت موضوعيا بانفلات عنف النظام الى درجة مهوولة، بوقوعها فريسة لرومانسية الفاعلين في صناعة قرارها ودخولهم في تجاذبات حادة وصراع quot;هيمنةquot; على الثورة مع الفاعلين في المجلس الوطني السوري. إن تواصل هيئة التنسيق وزياراتها للعديد من دول العالم، روسيا والصين على وجه الخصوص، وتبنيها العلني أحيانا والضمني احيانا أخرى لموقف تجريم الثورة بعد تحولها المشروع الى المقاومة العنفية، وادعاءها بتورط جماعات إرهابية خارجية في إشعال العنف الحاصل في سورية، واتهامها لقوى ودول خارجية غربية وعربية بالتدخل في الشأن السوري، أكمل ما يحتاجه الروس والصينيون من معطيات لكي يرسموا صورة للوضع في سورية تتناسب والاستجابة للإلحاحات المصلحية ولإكراهات الثقافة السياسية والحكومية السائدة في كلا البلدين والمهجوسة بتآمر غربي يسعى إلى تقويض دورهما ومصالحهما الاستراتيجية ويهدد أمنهما القومي، الأمر الذي ساهم في صناعة الموقف الروسي والصيني وأدى إلى -الفيتو الكارثة- في مجلس الامن، الفيتو الذي تدفع الثورة الان ثمنه باهظا والذي نتج عنه في الوضع السوري كل هذه الماسي و كل هذا العدد الهائل من الشهداء.

فهل تستمر المعارضة - المهيمنون التقليديون عليها - في مواقعها المعطلة والمعيقة للثورة السورية موضوعيا ؟. وهل تدرك أن الشعب السوري يدفع أثمانا هائلة وإضافية لحريته نتيجة لأزماتها البنيوية وعقليتها الجامدة وصراعاتها المزرية على الهيمنة ؟. أم ان الوضع سيدوم هكذا حتى انتصار الثورة النهائي ليسقط حينها النظام ومعه تلك المعارضة دفعة واحدة.


كاتب و ناشط سوري