ضرورة المقدمة : التفاوض دون تفويض بمصطلح سياسي quot; خليها بيناتنا quot; يُلغي كل مايطمح أليه أهل العراق لتأسيس نظام ديمقراطي فيدرالي دستوري يتمتع بالشفافية والعدالة الأجتماعية التي تضمن الحريات وتتحقق فيه سيادة الدولة بسلطاتها الدستورية الثلاث.

وبعد هذه المقدمة، فأن عبارة quot; خليها بيناتنا quot; في كل اللهجات العربية تعني شيئ واحدquot; أرجو أن تحفظ السر بينناquot;.
وأختياري لهذا العنوان بالذات لايرجع فقط لهمسات تدور بين رؤساء أنظمة سياسية كما دار من همسات بين الرئيس الأمريكي أوباما و الرئيس الفرنسي ساركوزي بخصوص نتنياهو رئيس الوزراء الأسرائيلي quot; لاأطيق هذا الرجل لأنه كذاب quot; وردُ الرئيس أوباما quot; أنتَ لاتطيقه، تصور أن عليّ أن أتعامل معه كل يوم quot;. فعامة العرب تعرف أكاذيب قادة أسرائيل، وليس في الموضوع من جديد.

وما يهمنا من quot; خليها بيناتناquot; هو الأختيار الذي لجأ أليه السيد بارزاني رئيس أقليم كردستان باتخاذه من أسطنبول منبراً وبحضور رئيس الوزراء التركي أوردغان للتشنيع بالعلاقة التاريخية القومية القائمة بين أهل العراق ومهاجمته المالكي ونعته بأوصاف لاتليق وترهيب المعارضة الكردية التقدمية، خطأً فادحاً لايمكن تصحيحه ويفوق الأخطاء التاريخية السابقة كلقاءه بالرئيس صدام رمز الدكتاتورية والعنصرية القومية.

ووفق منهج quot; خليها بيناتناquot; أتبعَ رؤساء مستبدون ورؤوس عشائر قومية مهزلة التفاوض بدون تفويض ومنح أنفسهم الصلاحية الشخصية بالتجاوز على الصلاحية القانونية وطرق منحها، للتنازل عن حقوق وعقد مفاوضات سرية مع رؤساء حكومات تقوم على أسس تقليدية مضى عليها الزمن في عملية تمتين علاقات شخصية الطابع.

منذ العشرينات من القرن الماضي، ظهرَت في العراق ودول عربية أخرى قيادات عشائرية أبلت شعوبها بهذا التقليد الأجتماعي الذي لايتسم بأي حقوقية ممنوحة من شعوب تسكت عن خوف وعلى أو تثور من ألم على صفقات عقدها قادتها وحكامها، وعلموا بجور ما جاء فيها بعد سنوات من مرارة الفقروالتشرد. فكل أتفاقيات سايكس بيكو السرية و أخرى تتابعت بعد الحرب العالمية الثانية مع أمريكا وفرنسا وبريطانيا أسهمت في سطوتها على أقتصاديات وموارد العالم وجاءت بواقع هزيل لامصلحة حقيقية للشعوب فيها.

يثير أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الدكتور جون ميرشامير بطريقة التسائل في أحدى محاضراته السياسية ( لماذا يكذب القادة (Why Leaders Lie ويشير الى أن قادة دول الديمقراطيات الغربية يندفعون للكذب وأخفاء الحقيقة على نفس الجمهور الذي أنتخبهم، ويسوقون التبرير بأنهم يفعلون ذلك (للحفاظ على المصالح الحيوية العليا) خاصة عندما يتعاملون مع رؤساء دول العالم الثالث ودول الشرق الأوسط.

ما يدور وراء الكواليس من أسرار وغموض في العالم السياسي العربي وفنون سرية المباحثات والتباحث بملفات الصراع القومي والوثائق ذات الاهتمام المشترك تتجاوز مايجري في العالم الغربي وتُقلق طبقات متحضرة من شعوب تؤمن بديمقراطية وتأخي القوميات وترسخ أنظمتها الأنتخابية الحرة على ضوئها، مع أنها تصطدم بين الحين والأخر بمفاجأة رؤساءها المنتخبون يمارسون سياسياً Keep it between us لحرصهم على السرية وليس بنية خديعة شعوبهم أو جرها الى صراع أبدي مدمر.

وفي دولنا العربية التي تبحث عن أمنها وأستقرار بلدانها بمحاربة يومية للأرهاب وتوجه أجيالها لفهم الحياة الديمقراطية البرلمانية وفدرالية الدولة والأنتخابات العامة الحرة، يبحث بعض قادتها عن مساحة سياسية أكبر ولدور أكبر من حجمهم الوطني والسلطة المُرخصة لهم وفق الدستور. وتصبح المسألة في غاية الصعوبة والتعقيد لعدم وجود قادة فكر سياسي غير مرتبط بمعسكرات الأرتباط والتمويل الغربي الأستعماري القديم. وفي العراق وأزمته التي تُشير الى أنه يتقدم خطوة ويتراجع، بتأثير من قادته، خطوتين، لاتُكرس مؤسسات السلطة فما تقدمَ للمصلحة الوطنية العليا ومايجب أن يبقى ويستمر ويُحافظ عليه وتثبيت أركانه ديمقراطياً لنجاح العمل، وما يشعله قادة تمرير خطط التحالفات القومية عليه بمشاركة قوى شريرة أرهابية سلفية وبعثية وعشائرية ومذهبية معروفة منذ عام 2003 ينبغي أن يشار أليها ويُحَذر منها وتحاسب وفق دستور الدولة وقضائها.

لقد أثبتت الدراسات الأجتماعية الدولية لمؤسسات بحث عديدة أن قادة تأجيج الصراعات القومية والتمييز العنصري والديني والمذهبي والقومي يزرعون في مجتمعاتهم بذور أزمات سياسية مصطنعة لتوسيع قاعدة سيطرتهم و أبناء عشيرتهم على السلطة السياسية وأشغال قومياتهم بمشاعر العرق القومي والتمييز العنصري والديني والمذهبي. وغالباً تسعى قيادات قومية الى أثارة قضايا لامعة مثيرة ومقنعة من أجل حشد الدعم، ولعل أخطرها هو صراع القوميات. أن الأحساس بالغبن القومي وصغر بقعة أرض يقود المجتمع المدني الى حروب همجية تكشف عن نظرة الاستعلاء الفوقية، كما أثبت التاريخ صحة ذلك في مذابح الترك للأرمن والنزعة القومية في ألمانيا النازية وجنوب أفريقيا ويوغسلافيا وجيكوسلوفاكيا العنصرية، وكما نراه اليوم في السودان واليمن وسوريا والعراق.

والأجدر بالحذر منذ 2003 الى أيامنا هذه، قيام قيادات عراقية بأجراء لقاءات خارجية قومية ومذهبية ( مع عالم المصالح الدولية الخارجي المتوثب للهجوم على أرض العراق وأستغلال شعبه وموارده ) غرضها على مايَعتقد العراقيين، تعزيز وتنمية علاقات الصداقة والتعاون والتنمية بين العراق وهذه الدول حسبما ترد في البيانات المشتركة الصادرة وفق منهج تقليدي أعلامي، حيث تؤكد فيه الأطراف المعنية على أيجابية اللقاءات ونجاحها.

صراع القوميات الذي ظنَّ العراقيون أنهم تجاوزه بعد ولادة الدولة العراقية الفتية الجديدة التي تضم كل قوميات وأديان متأخية عارضت النظام الشوفيني السابق، لم يأخذ مساره المستقيم بعد. وسلبية هذا الصراع وغرابته ظهرت للعيان في لقاءات البعض مع مسؤولي دول أجنبية هم في أعلى قائمة التطرف القومي والتمييز العنصري والتوسع الأقليمي. هذه اللقاءات كما تبينَ من لقاء الهاشمي وبارزاني بمسؤولي الحكومة التركية، لم يكن غرضها تعزيز علاقات تجارية، صناعية، مصرفية، مالية معروفة، وليست للتبادل العلمي، الثقافي أو التكنولوجي المطلوب مع العراق، وأنما تتم وفق مصطلح quot; خليها بيناتنا quot; الخطير لأشعال صراع يأخذ الجانب القومي منه الحجم الأكبر،ولابد أن نشير أليه ولأغراضه بصورته الحقيقية دون تجميل.

Turkish Prime Minister Tayyip Erdogan (R) and Kurdistan Region President Masoud Barzani shake hands before their meeting in Istanbul April 19، 2012. REUTERS/Stringer

في الماضي القريب أعطى العراق كنتيجة للنزعة الأستعلائية، التنازلات الأقليمية لأراضِِ عراقية حدودية للكويت والأردن وأيران في عهد الرئيس صدام وللفترة من 1991 الى 2003.

ولعل أغربها في عالم سياسي مضطرب تتقاذفه أعمال منظمات للتخريب والأرهاب الموجه ضد أهل العراق، هي الأتفاقات الشخصية التي مازال ينتهجها البعض منذ عام 2003 والتي تبعث على الريبة الى يومنا. ويبرز في هذه الأتفاقات الطموح السلطوي ألأبتزازي وأستمراريته في طلب المساعدة والتأييد من دول خارجية كأمريكا وحلفائها في المنطقة كتركيا الآن، ويتخذون من مواقع معروفة بمخاصمتها للقوميات الأثنية، مهاجمة الحكومة العراقية من الخارج والتحريض على أسقاطها ( مع أنهم يشكلون نسبة كبيرة من سلطتها السياسية) الوسيلة الرخيصة لخدمة هذه الدول المعروفة بعدائها التاريخي للعرب والقوميات الأخرى.

يسود الرأي العام العراقي العربي والكردي غموض مابعده من غموض، بعد قيام السيد بارزاني بزيارات الى دول الأستعمار القديم وإلزام نفسه بوعود شخصية خارج الأطار المألوف لأعتبارات قومية سياسية وحزبية قد تضر بشعب العراق وتقود الى أشعال المنطقة برمتها في أجيج حرب مدمرة.

في شهر كانون الأول من عام 2011 وقبل أيام من مغادرة أخر وحدة عسكرية أمريكية أرض العراق بدأت قوى عراقية عربية وكردية تتأمر على بعضها وتغتال ماأراد شعب العراق تحقيقه بواسطة عملائها المسلحين ومن يقف ضد مطاليب أبتزازية.

السيد بارزاني في موازنات خاطئة تماماً، يحسب الانتصارات الدبلوماسية ولايحسب الخسائر البشرية وتميزها بدقة والتي قد يسببها تحريض الشعب الكردي على الأنفصال عن الجسم الأم ومهاجمته اليومية لنوري المالكي رئيس الوزراء المنتخب والممثل الشرعي للعراق الموحد، ونعته بأوصاف الدكتاتورية والتفرد بالسلطة، وتلويحه بأعلان الأستقلال من أسطنبول برفقة أردغان لأن الأكراد لهم حق تقرير المصير، وهو المصير الذي لاتعيره تركيا أي أهتمام كما رأينا تاريخياً.

قيادات المجتمع الكردي على اختلافها تدرك تماماً تاريخ تركيا الدموي، الدولة القومية الشوفينية ذات السيادة العثمانية والتاريخ الموثق في سجلات الأمم المتحدة للتطهير العرقي العربي الأرمني والكردي. فكيف أصبحت فجأة المنار الذي يتعاطف معها زعيم كردي يتحمل مسؤولية أبعاد الشعب الكردي عن الأذى والأذلال والحفاظ على مكتسبات ماتحقق لهم في ظل الشراكة الوطنية ؟ وفي حين يتعاطف شيعة العراق( المجلس الأعلى والدعوة ) الذين حملوا السلاح ضد نظام صدام عام 1991، ووقفوا بشجاعة الى جانب أخوتهم الكرد في النضال لنيل الحرية لشعب كردستان ونددوا بجرائم حلبجة وطاعون الأنفال وسجلوها للمنظمات الدولية كجرائم ضد الأنسانية...لم يشاهدوا أي مبادرة تعاطف مخلصة حقيقية كردية تندد بالنظام اللعين في أضطهاده وملاحقته لشيعة العراق ولم يشجبوا وينددوا بالمقابر الجماعية التي خلفها لأبنائنا ذلك النظام الدكتاتوري وهم يتعاملون مع رمزه قبل الخلاص منه.

وفي الساحة السياسية لمنظمات حقوقية عربية وعراقية، نرى كالأخرين أن خطورة هذه اللقاء قد يُمهد للتنازل والتسليم والخضوع لتأثير سلطان الباب العالي العثماني التركي وهو خطأ تاريخي قومي يتحمله مرتكبيه بأعطاء تركيا نفوذاً للتدخل في الشأن العراقي، وقد يفقد السيد بارزاني رصيده السياسي بين الكتل الشيعية والسنية في العراق أذا لم يتدارك الخطأ. كما أن أخرين أعتبروا تحرك السيد بارزاني ولقاءه بأوردغان قد تم أيضاً دون معرفة رئاسة مجلس النواب وكتل عراقية مناصرة للأكراد في المجلس، وأنتقدوا اللقاء مع الجانب التركي بالتسائل أِذا كان يحمل هوية العراق أم أهداف الحزب الديمقراطي الكردستاني، الصفة العراقية أو المذهبية، أو كان اللقاء يحمل في طياته صفة تحالف قومي مؤقت مع تركيا!

والمراقبون الذين أصابتهم الدهشة يرون أن اتخاذ بارزاني هذه الخطوة ستخدم الحكومة التركية على الأمد البعيد. ويبدو أن حكومة أوردغان التركية الحالية عازمة على أخذ مبادرة بارزاني الى نهاية الطريق بتأييد شكلي لأستقلال أقليم كردستان ووضعه بين مخالبها والذي سيحقق للدولة التركية هدفين مع ما يترتب عنهما من مآس أنسانية :
1. أضعاف الحكومة العراقية وأشغالها في صراع قومي تركي عربي يخدم من كل جوانبه الصهيونية العالمية.

2. التخلص من الثوار ألآكراد في تركيا وأرغامهم على الأنضمام الى الوطن الجديد خارج حدود تركيا الأقليمية. وفي كلتا الحالتين فأن الشعب الكردي سيكون الخاسر الوحيد بوضعه من جديد أمام محن التحدي ألأقليمي ولايعرف أحد مخاطره ونتائجه.


كاتب وباحث سياسي