لا يمكن الحديث عن مثقفي مصر ككتلة واحدة طبعاً، فهم في اتجاهات ورؤى مختلفة، وفي إمكانات وأمزجة ومستويات و مصالح متباينة أيضاً،لذا كان تأثرهم أو تأثيرهم ( المختلف على مداه وفاعليته أيضاً) لذا جاء التزامهم بثورة 25 يناير متفاوتاً في الدرجة والحجم والمدى!

لكن ثمة حقيقية جوهرية في الثقافة المصرية هي أنها تقف أمام التحديات الوطنية الكبرى في استنفار هائل، وتعبئة للذات تقارب طقوس مواجهة المصير الأخير، من يشارك المصريين أحاديثهم في المقاهي أو يستمع لأغانيهم وأناشيدهم من التلفزيون والراديو التي تشيد بمصر وأمجادها يعتقد أنهم يعانون من نرجسية وإعجاب بالذات ينبغي التخفيف منه، ولكن من يطالع تاريخ مصر ويعرف كم واجه المصريون من غزاة وكم أوقع الحكام المستبدون بهم من مظالم ونكبات،وكيف استطاعوا رغم الضنك والعسف الخروج منتصرين من المحن الكبرى! وهم حتى اليوم تتهددهم مخاطر كثيرة،داخلية وخارجية، يجد أن تغنيهم بانتصاراتهم وقدراتهم أمر مشروع وضروري لكي يبقوا على يقظتهم واستعدادهم وثقتهم بأنفسهم!

بشكل عام جميع المثقفين المصريين مشغولون الآن بثورتهم، حتى أولئك الذين أطاحت بهم من مواقعهم واضمروا لها العداء لديهم طروحاتهم الفاعلة بشكل ما!
لا يمكن اعتبار كل المثقفين الذين كانوا يعملون في أجهزة الدولة الثقافية والإعلامية هم من مثقفي النظام السابق، فمعظم المثقفين هنا يمكن اعتبارهم من كادحي أو شغيلة الفكر الذين لا يقلون فقراً أو خشونة عيش عن كادحي اليد والعضل، هناك مجموعات أو حلقات من المثقفين ارتبطوا بشكل مباشر بمبارك وطغمته ومراكز التجارة والمال الطفيلي وباعوا ضمائرهم للشيطان، شحذوا أقلامهم لكي يورثوا السلطة لابنه فزيفوا وكذبوا وطبلوا وحصلوا على امتيازات كثيرة لقاء ذلك فقدوها أو بعضها الآن، هؤلاء وجدوا بغريزة انتهازية مواقع أخرى ينفثون منها سمومهم لشد أزر الثورة المضادة،وليحصلوا على ذات الامتيازات التافهة من قوى أخرى صاعدة!

في مؤتمر الثقافة والثورة الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة للفترة من 13 إلا 16 نيسان الجاري كان من الممكن تلمس مستويات الخطاب الثقافي لمختلف المثقفين المصريين أو توصيفاً له من قبل عدد كبير من الباحثين!

بعضهم حاول تقديم أجوبة على أسئلة صعبة ومعقدة،وبعضهم كان أكثر تهيباً أمام سطوة المعرفة وثقلها وخطورتها،فاكتفى بطرح الأسئلة منتظراً الأجوبة ولو بعد حين! ثمة من أشار بدقة إلى مثقفين رفضوا النظام السابق وامتيازاته وجوائزه بشجاعة( الروائي صنع الله إبراهيم رفض جائزة كبيرة وفي محفل كبير يكتظ بالشهود ما شكل إهانة كبيرة للنظام،وعند ذكر اسمه في المؤتمر صفق له الحاضرون) مثقفون كثيرون تحملوا مخاطر الموت والسجن والأضرار المادية ولم يترددوا في كشف كمية رمال الزيف التي تقوم عليها ركائز السلطة! مارست الثقافة في مصر عبر الرواية والشعر والمسرح والسينما وحتى الغناء والموسيقى وغيرها النقد الاجتماعي (والسياسي في جوهره) وتجسيد الاستياء والرفض للواقع الماثل والتطلع إلى واقع أفضل. وقد جهد الكثير من أساتذة الجامعات في تبيان الحقائق المناقضة لما تضخه أجهزة لإعلام المرتبطة بالنظام. وكم من قصائد فصحى وزجل وأغان وحتى نكات أطلقها مثقفون فكانت سهاماً نابتة حطت كثيراً من هيبة ذلك النظام، هل ما تكون من وعي في عقول الشباب الثائرين بمعزل عن كل ذلك؟

ولكن ثمة من يتساءل حتى اليوم : هل كل ذلك يتناسب وحجم المثقفين والثقافة في مصر؟ هل فوجئ المثقفون بهذه الثورة؟ فهي قد صنعها الشباب بدهاء عجيب إذ بدأوها بما يشبه البروفة في العالم الافتراضي على الكومبيوتر ثم نزلوا بها إلى الشوارع قوة مادية جارفة كاسحة! أين الثقافة وخيال الشعراء من كل ذلك؟ كيف تسبق الحقيقة المادية الصورة الخيالية وتتفوق عليها؟

المثقفون الذين يعجبهم أن يكونوا معلمين للثوار عليهم هم أن يتواضعوا أيضاً ويتعلموا من الثوار، الثورة كصورة جميلة كإبداع كخيال وتجل وإلهام حقائق تتفجر هي ليست بالبساطة التي يتصورها البعض: فلذلك ثمن فادح: أرواح الآلاف من خيرة شباب وشابات مصر!

في الجلسة الأخيرة تحدث الكاتب الفلسطيني فيصل دراج في ( المثقف المتسلط، والمثقف الديمقراطي) منتقداً المثقفين الذين ما زالوا حتى الآن سادرين في رطانتهم، يتحدثون كما قال عن التفكيكية في النص ولا يرون حولهم واقعاً يتفكك هنا وهناك!( في غزة مثلاً)، ويتحدثون عن بنيوية على الورق ولا يرون ضرورات البناء على الأرض، حديث دراج وملاحظات مشابهة لمثقفين آخرين: ترجعنا إلى تلك النقاشات الحادة التي دارت في الستينات حول التزام المثقف سواء بالمفاهيم التي طرحها منظرو الواقعية الاشتراكية أو بمفهوم غرامشي عن المثقف العضوي أو بالمفهوم السارتري لمعنى الالتزام كشرط وجودي ثم انتكاس وتهشم كل ذلك بعد هزيمة 5 حزيران 1967 وتوالي خيبة الناس بنظم الأحزاب الثورية ( خاصة بعد أن تمكنت من السلطة) وسحقهم للمثقف والثقافة وإشاعتها لثقافتها (الثورية الشمولية ) المدمرة وإطلاق اليد لمثقفيها أشباه الأميين! كل ذلك جعل الكثير من المثقفين ينكفئون وينطوون على أنفسهم متحدثين وبشكل مشروع عن ضرورة إنقاذ الإنسان كفرد أولاً، معلنين أن دورهم هو في تحقيق إبداعاتهم على أفضل مستوى،والذي به يسعفون أرواح الناس بما فيهم المناضلين!

لكن الثورات المندلعة،والانعطافات الحادة والأليمة للمجتمعات العربية في هذه الحقبة التاريخية تطرح من جديد دور المثقف وموقفه بقوة: أيعقل أن ينظر المثقف لما يجري كأي متفرج؟ أيمكن له وهو الإنسان الحساس أن يدير ظهره للمذابح وتدمير المدن في سوريا مثلاً؟ يتجاهل الخراب المادي والروحي في العراق على أيدي الطائفيين والقوميين العنصريين؟

الكاتب والأكاديمي حسن حنفي في تحليل عميق للكيان الثقافي دعا إلى تقليص المسافة بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير، لكي يزيد من انتفاع الناس من الثقافة ويقلل من استفادة الأنظمة منها في نزعات السيطرة، وتساءل لماذا تنحرف الثورة وتتحول إلى سلطة مستبدة؟

تثير البحوث التي قدمت الكثير من النقاش في قضايا الثورة والثقافة في تفاعلهما وعطائهما المشترك، ما يقتضي وقفات مطولة، اختتم الجلسات الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة الدكتور سعيد توفيق، وقدم توصيات المؤتمر: ضرورة عقد هذا المؤتمر سنويا من أجل رصد تجليات الثورة وتعميق الوعي الجمعي بظواهرها المختلفة وتنشيط قيمها في الوجدان المصري والعربي، والكشف عن طبقاتها السياسية والمعرفية والجمالية والإنسانية المتداخلة والمتعددة، ترجمة الإصدارات العالمية المختلفة جول الثورات العربية لرصد رؤية الآخر لها، توثيق يوميات الثورة، ضرورة وقوف وزارة الثقافة على مسافة واحدة من كل الاتجاهات السياسية في البلاد من اجل تأصيل ثقافة الديمقراطية وتعميق ديمقراطية الثقافة،ونشر الوعي الثقافي لدى جميع أطراف الشعب، العمل على تحقيق مدنية الدولة بما يتيح لكل مواطن أن يأمن على يومه وغده وينعم بحياة كريمة، دعم قيم التواصل والحوار بين أفراد الشعب وكافة ثقافاته الفرعية،عقد ندوات ومؤتمرات لمناقشة مفاهيم سياسية محورية نخبة من الكتاب العرب والأجانب كمفهوم الدولة المدنية التيار اللبرالي، العلمانية الهوية، رصد متغيرات الإبداع الشعبي وتجلياته ابتداء من الأغنية والموال وانتهاء بالنكتة تطوير المناهج الدراسية كشف الإعلام المعادي للثورة البحث عن صيغ لائقة لتخليد شهداء الثورة!

إن أعظم صيغة لتخليد الشهداء هي نجاح الثورة في تحقيق الأهداف التي ضحوا من أجلها، فالشهداء ثاروا من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، من يضمن تحقق ذلك ويكون مظلة الثورة وحارسها الأمين؟ في العالم المتمدن يقوم الوعي الحضاري للناس جميعا بحراسة الديمقراطية والعلمانية وقيم العدالة، في تركيا مثلاً استطاع كمال أتاتورك أن يجعل الجيش وصياً وحارساً على قيم العلمانية والديمقراطية. في بلداننا حيث الوعي الحضاري لدى الناس ما يزال منكفئاً، والجيوش تربت على النزعة الانقلابية وحب الهيمنة، لذا حين يتلفت الناس لا يجدون سوى جموع المثقفين من يمكنهم رغم الصعاب تولى ذلك، فهم في عملهم المضني والمحفوف بالمخاطر في مهمات استشهادية دائماً،يمكن القول : أن المثقفين المبدعين هم الأقرب إلى الشهداء لذا يكون من الطبيعي أن أرواح الشهداء والأهداف التي ضحوا من أجلها هي وديعة وأمانة بأيديهم، وسيقدمون في سبيلها تضحيات باهظة! ما تعرض له نجيب محفوظ من محاولة اغتيال هو ثمن دفاعه عن هذه القيم التي حملها أمانة من ثورات مصرية وإنسانية سابقة،وهو لم يعبر عن هذه القيم بطريقة مباشرة أو فجة بل بطريقة فنيه عالية نالت إعجاب المحافل الأدبية في بلاده وفي العالم، وتجربته تقدم أمثولة على أن التزام المثقف المبدع بالقيم الإنسانية والثورية لا يتناقض مع إبداعه!