الهدف من اختيار هذا العنوان لهذه المعالجة هو تبيان خطأ حصر مسألة بناء البديل الديمقراطي في القوى والمنظمات السياسية التي تجد نفسها تحت وطأة الأنظمة الشمولية والديكتاتورية والباحثة عن الوسائل الكفيلة بجعلها تنفلت من أسار الاستبداد والتحكم والتسلط السياسي المفروض عليها في ظروف تاريخية محددة لولوج فضاءات الحياة الديمقراطية الرحبة التي تحاول وضع أسسها وإحكام تحصيناتها المبدئية والعملية حتى لا تتحول إلى نقيضها على أيدي نخب تتفرد بالسلطة وتقضي على مقومات البناء الديمقراطي التي تمت بلورتها خلال المعارك السياسية ضد الاستبداد.

ذلك، أن البديل الديمقراطي مطروح أيضا، وربما على نفس المستوى، وعلى الدرجة إياها من الحدة والأهمية، بالنسبة للدول والأنظمة التي تعيش حياة ديمقراطية عادية. ذلك أن كل تطوير للمنهجية والذهنية الديمقراطية، وكل إصلاح يتم إدخاله على المؤسسات الديمقراطية القائمة، وكل ما يتم إبداعه من مؤسسات يدخل في صلب البناء الديمقراطي الذي يعتبر عملية متواصلة، بحيث يصبح كل توقف عن التطوير والإبداع بدعوى اكتمال التجربة الديمقراطية ونموذجيتها ضربا في الصميم للعملية الديمقراطية التي قدرها أن تتطور وتنمو باستمرار أو تراوح مكانها لتتراجع وتتقهقر وتنحدر إلى درك الجمود القاتل الذي يستدعي الديكتاتورية والتسلط بمختلف أشكالهما باسم إعادة الاعتبار لسلطة الدولة والدفاع عن السيادة الوطنية تارة، وحماية مصالح المجتمع العليا تارة أخرى، وضمان الفعالية والنجاعة في التعاطي مع قضايا التنمية الاجتماعية والسياسية أحيانا كثيرة، إلا أن النتيجة الفعلية لكل ذلك هي إعادة إحياء أساليب التسلط المنافية للديمقراطية الحقيقية. ولعل هذا ما يجد المجتمع الفرنسي نفسه أمامه في الوقت الراهن حيث يبدو أن الحملات الانتخابية لمرشحي اليمين وأساسا رئيسة الجبهة الوطنية المتطرفة مارين لوبن والرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي قد وجدت أن الخطاب الأمني والمعادي للمهاجرين وأبناء المنحدرين منهم من البلدان العربية رغم كونهم يحملون الجنسية الفرنسية تحت مزاعم التطرف وعدم الاندماج في المجتمع الفرنسي هو الذي يمكنها من الحصول على أصوات الناخبين الفرنسيين الذي يعيشون في قلب أزمة اقتصادية غير مسبوقة صورها اليمين كما لو كانت نتيجة حتمية لتدفق المهاجرين إلى البلاد علاوة على من اعتقدوا أن التخلص من المهاجرين سيعيد الأمن والأمان إلى ضواحي المدن الكبيرة التي يعشش فيها الفقر وتصل فيها نسبة البطالة إلى أرقام قياسية تؤشر على مدى عمق الأزمة التي تعاني منها فرنسا. وقد اعتبر هذا التحول في الخطاب السياسي وفي ترسانة القوانين التي تم سنها أو التي يعمل المسؤولون السياسيون على اعتمادها ضمن هذه الروح خطرا محدقا بالديمقراطية الفرنسية العتيقة ولقيم الجمهورية الفرنسية الأساسية ممثلة في المساواة والحرية والإخاء. وقد جاءت عمليات الاغتيال التي تعرض لها بعض الجنود الفرنسيين من أصل مغربي والاعتداء الذي تعرضت له مدرسة يهودية في مدينة تولوز حيث قتل ثلاثة أطفال ومدرسهم وهم من الطائفة اليهودية لإعطاء نفس قوي لهذا التوجه الذي تحول في بعض الأحيان إلى معاداة صريحة وواضحة للإسلام انطلاقا من أن المسؤول المفترض على تلك الاعتداءات هو شاب فرنسي مسلم من أصل جزائري. وإذا كانت الديمقراطيات التاريخية تواجه مثل هذه الانحرافات فما القول بالنسبة للبلدان التي ما تزال تتلمس الطريق في هذا المجال وتبحث لنفسها عن أشكال للممارسة الديمقراطية قابلة للحياة والتطور.

إن القاعدة الذهبية التي ينبغي استحضارها على الدوام هي أن التطور المستمر والمضطرد للمجتمع يقتضي بالضرورة تطورا متواصلا للمؤسسات التي تحكمه على جميع المستويات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما يجعلها تواكب هذا التطور وتؤطر حركة المجتمع بما يعمق اختياراته الديمقراطية ويجعله قادرا على تجاوز أزمات النمو التي سيعرفها لا محالة ورفع التحديات المستجدة عندما يحقق طفرة في نموه أو يتعرض إلى هزات بنيوية في أي ركن من أركانه الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو على مستوى هويته القومية أو الثقافية.

وغني عن التذكير أن الديمقراطية تبنى على أكثر من مستوى أي على مستوى الدولة بمختلف مؤسساتها وأجهزتها ودواليبها، وعلى مستوى المجتمع بمكوناته المدنية ونقاباته ومنظماته المهنية والسياسية.

الأحزاب السياسية تبني الديمقراطية من خلال سنها على الصعيد الداخلي واعتماد أسلوب نقدي تجاه المؤسسات القائمة يكون فيه المقياس الحاسم هو العمل على بناء المجتمع الديمقراطي بمختلف مؤسساته.

إن الأمر متعلق بطبيعة المقاربات المعتمدة في البحث عن حل الإشكالات ومعالجة القضايا المقاربة الديمقراطية لها مقوماتها التي تعتبر دعاماتها الأساسية ولها إجراءاتها وأساليبها الخاصة في التعاطي مع مختلف القضايا والمستجدات السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمع والمقاربات غير الديمقراطية تمتلك هي أيضا مقوماتها ولها إجراءاتها ومنهجيتها في التعامل مع الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي وهي في مجملها تتعارض مع المقاربة الديمقراطية اللهم في بعض الحالات الاستثنائية التي قد تدفع إلى تعليق العمل مؤقتا بالمنهجية الديمقراطية لمواجهة بعض التحديات الكبرى كما هو الشأن في حالات الحرب والكوارث الطبيعية التي تستدعي التعبئة الشاملة لضمان فعالية وسرعة تأثير الإجراءات الاستثنائية بما يخدم المصلحة العليا للشعب ويقلل من أضرار والتداعيات السلبية لتلك الحالات غير العادية.

وبطبيعة الحال، فإن كل نظام سياسي يعتقد انه مثالي في جميع الميادين والمجالات هو نظام يحكم على نفسه بالتراجع والتخلف عن الركب بما في ذلك التراجع عن إنجازاته على المدى البعيد، إن لم يكن على المدى القريب. ولعل هذا يصدق على النظام الديمقراطي قبل غيره من الأنظمة السياسية الأخرى والسبب الرئيسي في ذلك أن هذا النظام يتميز عن ما سواه بكونه ديناميكي الحركة وبارتباط دائم مع حركة المجتمع وتطوره المستمر.

ومن هذه الزاوية على هذا النظام أن يضبط إيقاع إصلاحاته الخاصة بطبيعة الوتائر التي يعرفها الواقع الاجتماعي والسياسي وهي لا تعرف الركود والجمود حتى في الوقت الذي يبدو فيه لغير المدرك لطبيعة حركة المجتمعات أنها تراوح مكانها. إن هذه القاعدة هي القاعدة الذهبية في قاموس التغير الاجتماعي في مختلف العصور وبالنسبة لكل الثقافات والحضارات الإنسانية، ولم يصادف التاريخ نظاما سياسيا شذ عن هذه القاعدة وبالتالي ينبغي أن لا تغيب عن وعي الفاعل السياسي خاصة إذا كان يصنف نفسه ضمن خانة الفاعلين الديمقراطيين.

bull;كاتب وباحث مغربي