في حياتي الصحفية التي امتدت حتى الان اكثر من نصف قرن التقيت بالكثير من الشخصيات بعضها لم يترك اي اثر في نفسي او ذاكرتي والبعض الاخر كان من القوة والجاذبية بحيث كان يملأ الذاكرة عاما بعد عام رغم بعد المسافات وامتداد السنين واستحالة تكرار اللقاء ثانية.

الكاتب مع بن بيللا وهاشم جواد

من هؤلاء شخصية الثائر الجزائري احمد بن بللا.
التقيت احمد بن بللا بعد خروجه من السجن الفرنسي مع رفاقه قادة الثورة الجزائرية حسين اية احمد ورابح بيطاط ومحمد بوضياف وكان معهم محمد خيضر.

كان ذلك عام 1962 عندما استدعاني السكرتير الصحفي لرئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم لأحضر لقاء الزعيم بقادة الثورة الجزائرية الذين وصلوا بغداد لبحث مساعدة العراق للجزائر المستقلة.

كنت الصحفي الوحيد الذي شهد ذلك اللقاء الذي إمتد نحو 3 ساعات كان الحديث معظم الوقت يدور بين الزعيم ومحمد خيضر فقد كان الوحيد الذي يجيد اللغة العربية في حين كان الآخرون يتكلمون الفرنسية ولا يجيدون إلا القليل من العربية.

كان بن بللا الذي يبلغ من العمر هذه الأيام أكثر من 90 عاما شابا في السادسة والأربعين خجولا لا يتكلم إلا القليل ولعل خجله بسبب اللغة ومع ذلك فقد حاول جهده وبمساعدة خيضر أن يشرح للزعيم احتياجات الثورة الجزائرية بعد أن حصلت على الاستقلال في 4 تموز من ذلك العام.

وطلب بن بللا على استحياء ان تستمر مساعدة العراق للجزائر بمبلغ (أراه ألآن زهيدا) هو مليونا دولار.

لكن الزعيم الذي كان يؤيد ويدعم ثورة الجزائر لم يستجب للطلب وراح يشرح للثوار الجزائريين مشاكل العراق المالية مع شركات النفط الأجنبية والوضع في شمال العراق حيث قاد الملا مصطفى البرزاني الثورة الكردية ضد حكومة بغداد.

وفي اليوم الثاني التقيت بن بللا في حفل العشاء الذي أقامه الزعيم لضيوفه، وكنت من بين المدعوين.

وحسب ما اذكره عن بن بللا انه من مواليد 25 ديسمبر/كانون الأول 1916م في مدينة تدعى مارينا قرب الحدود المغربية، وخدم في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية.

وقد لا يعرف الكثيرون ان احمد بن بللا كان رياضيا وانه كان لاعب كرة قدم في فريق مرسيليا الشهير، كما كان بطلا في السباحة لمسافة 400 متر ولعل هذا هو سر احتفاظ بن بللا لحيويته ونشاطه وهو يبلغ التسعين من العمر رغم السجون والمعتقلات والمنفى وحياة القلق التي عاشها.

في عام 1950 اعتقل وحكم عليه بالسجن سبع سنوات لكنه استطاع الهرب من السجن بعد سنتين وذلك في آذار 1952 فتوجه إلى القاهرة وشكل مع مجموعة من شبان جزائريين لجنة ثورية تحولت فيما بعد إلى جبهة التحرير الجزائرية.

وفي عام 1956 عندما كان مع رفاقه في طريقهم بطائرة مغربية إلى تونس استطاع الفرنسيون إقناع الطيار وكان فرنسيا بالهبوط في الجزائر فالقوا القبض على قادة الثورة الجزائرية ونقلوهم إلى فرنسا حيث سجنوا حتى 1962 عندما اضطرت فرنسا إلى الاعتراف باستقلال الجزائر وتوقيع اتفاقية أيفيان ا لشهيرة.

مع بن بيللا وعبد الكريم قاسم

وتابعت فيما بعد وعن بعد بن بللا قائدا للثورة ورئيسا للحكومة ثم منتخبا كأول رئيس للجمهورية في أيلول 1963لكنه لم يستمر بالسلطة سوى عامين بعد انتخابه فأطاح به احد قادة الجيش العقيد هواري بومدين ووضعه في السجن.

أمضى بن بللا 15 سنة في سجون بلاده وبذلك يكون بن بللا قد أمضى في السجون الفرنسية والجزائرية ما مجموعه 25 سنة وبعد ذلك تحول إلى المنفى الاختياري في أوربا بعيدا عن وطنه.

عن السجون، يروي بن بللا إن سجانيه الفرنسيين كانوا ارحم من سجانيه الجزائريين فلم يسمح هؤلاء لوالدته بزيارته ثلاث سنوات وعندما وافقوا على الزيارة تم تعريتها للتفتيش وتركوها عارية لمزيد من الإذلال حتى مرضت من البرد وماتت دون ان يتمكن بن بللا من حضور جنازتها.

وخلال عهد الرئيس صدام حسين وقف بن بللا مؤيدا للعراق في صراعه مع الولايات المتحدة خلال الحصار السياسي والاقتصادي الذي فرض على العراق ، وقد زار العراق عدة مرات ما بين 1990 إلى عام 2003 ورايته ما زال يحمل تلك الروح الثورية التي كان يتمتع بها أيام النضال ضد الاستعمار الفرنسي.

وقد لا يعرف الكثيرون سرا من أسرار بن بللا هو أنه مغربي الجنسية وليس جزائريا كما كان يعتقد الجميع. يقول بن بللا quot; ولدت حقا في الجزائر، وترعرعت بها، لكن والدي ووالدتي مغربيانrdquo;، مؤكداً أن ذلك لم يؤثر على حبه للجزائر وخدمته لشعبها طوال فترة حكمه.

هو الآن في الخامسة والتسعين وأنا في السابعة والسبعين ولا أظن في العمر بقية لكي التقي مرة أخرى هذه الشخصية الفريدة.