دأبت الانظمة الدكتاتورية على المبالغة في تقديس الوطن والتعامل مع حقوق وحياة المواطن بصفتها تافهة ولاقيمة لها، وحرصت على الخلط بين الحاكم والوطن، فأذا قال الحاكم قال الوطن وخيانة الحاكم من خيانة الوطن، ورفعت شعارات كثيرة تقوم على تحقير المواطن وتقديس الوطن ( نموت نموت ويحيا الوطن) وتصادر حقوق المواطن وتنتهك كرامته وتطالبه دائما بالتضحية من اجل الوطن (الواجبات أولا ثم الحقوق) لكن الذي يحدث ان المواطن يقدم التضحيات ولايحصل على حقوق.


في العراق دفعت اجيال حياتها وشبابها في حروب عبثية تحت شعار الوطن المقدس أبان النظام السابق، كانوا معظمهم من الفقراء، بينما ظلت فئات أخرى تروج للوطن المقدس وتمارس انتهازيتها للحاكم على حساب دماء وآلام الفقراء، ومن بين هؤلاء من يداهن اليوم اصحاب النفوذ من ساسة العراق الجدد، مثقف وأكاديمي اعرفه جيدا كان بالامس يشارك في أحتفالات اعياد ميلاد صدام التي تقيمها السفارات العراقية ويصف صدام برمز الوطن واليوم يشارك في الاحتفالات التي تُقام بمناسبة ذكرى أستشهاد محمد باقر الصدر رحمه الله خارج العراق ويقول ان أستشهاد الصدر هي قضية وطن.

ويبدو ان السلطة علمانية كانت ام دينية بحاجة الى المبالغة بتقديس الوطن والترويج لمفهوم ان جميع المواطنين هم مشاريع استشهاد وفداء للوطن، وذلك لقمع المواطن ومنعه من المطالبه بحقوقه، هذا المواطن الذي يرى بعينه، المال العام يُسرق من قبل المنتفعين أو ويُهدر في مغامرات واهواء لا علاقة لها بمصلحة الوطن، بينما يحاول الحاكم لجم المواطن عبر التغني بالوطن والمصلحة العامة وأهمية نكران الذات والتضحية من اجل الوطن وعليك ان تسأل نفسك اولا ماذا قدمت للوطن قبل ان تطالب بحقوقك !!!، في الوقت الذي تتقاضى فيه الطبقة الحاكمة في العراق اليوم الرواتب الخيالية والتخصيصات المالية الاضافية والاراضي والسيارات فضلا عن شطارتهم في سرقة المال العام.


الانسان هو القيمة العليا وليس الوطن، وهذا مبدأ تؤكده الشرائع السماوية والارضية على حد سواء والوطن مجرد وعاء لخدمة هذا الانسان، أبصقوا على الوطن، ان لم يكن الانسان فيه كريما وحقوقه مصانة، ولتتوقف جوقة الانتهازيين والمنتفعين من التغني بالوطن، لقد قدم فقراء العراق في العقود الماضية ما لم يقدمه شعب في هذا العالم من اجل الوطن، ولابد اليوم ان تتوقف هذه الشعارات الصفراء المستهلكة من قبيل ( الواجبات قبل الحقوق) و (نموت ويحيا والوطن) وغيرها.


الحقوق والحريات أولا، هذا الشعار هو الذي ينبغي ان يسود، وعلينا ان نبصق بوجه من يقف بوجوهنا ويحاول خداعنا مرة أخرى بالتغني بالوطن وقدسيته، لان المقدس هو الانسان وليس الوطن.


ويمثل الربيع العربي يقظة للشعوب العربية من خدر الوطنية الزائفة التي عاشتها منذ تسلط الانظمة الاستبدادية في النصف الثاني من القرن الماضي بدءا بنظام جمال عبدالناصر، وصارت الشعوب اليوم تثور لا من اجل الوطن بل من اجل الانسان، من اجل كرامة الانسان كما حدث في تونس بعد حادثة محمد بوعزيزي، وفي مصر بعد حادثة ركل وسحل الفتاة المصرية.

ولعل قصيدة الشاعر العراقي احمد مطر تمثل خير رد على الانتهازيين والمتاجرين بقدسية الوطن حيث يقول


تفٌ على هذا الوطن
وألفُ تفٍ مرةً أخرى
على هذا الوطن
مِن بعدنا يبقى التُراب والعفن
نحن الوطن
مِن بَعدَنا تبقى الدوابُ والدِّمَن
نحنُ الوطن
إنْ لَم يَكُن بِنا كريماً آمناً
ولم يكن مُحترماً
ولم يكن حُراً
فلا عِشنا.. ولا عاشَ الوطن


[email protected]