في مصر اليوم: الثورة قلقة، والناس قلقون، وعندما تكون الثورة قلقة فهذا ليس بالضرورة مؤشر إخفاق وإحباط،على العكس فهي تعاني مخاضها الأليم،خير للثورة أن لا تدعي انتصارها وفرحها وتفاؤلها وتركن للراحة على كراسي الحكم، بل تبقى في حالة تململ وتحفز وتطلع نحو الأفضل،عبر حيوية التطور واكتشاف الذات! استكانة الثورة للركود باسم النصر المؤزر بداية لدخولها المستنقعات التي آلت فيها الثورات إلى الترهل والموت، وتحولت إلى سلطة متخمة بالفساد والطغيان!

المصريون اليوم في معظمهم قلقون على ثورة منحوها دم قلوبهم وفلذات أكبادهم وها هي اليوم تقف على مفترق طرق، هل ستلبي مطامح الشعب كله؟ فتمنح ثمارها للجائعين والمحرومين والمعذبين وأصحاب الاستحقاق المشروع؟ أم أنها ستؤول للأثرياء وأصحاب الصولجان القديم تزيدهم غنى وجاهاً وسطوة؟ هل ستبقى بيد من أشعلها بدمه يحرص عليها يرضعها ويرعاها،ويقيها من الانحراف، أم ستكون للغرباء والطارئين عليها والمعادين لها أصلاً ومن ركبوا قاربها حين لاجت شواطئ السلامة؟ ثمة اليوم من يريد أن يكون الشاطئ له وحده، مطلقاً صيحة رجل الغابة مفعماً بشراسة القداسة، متسلحاً بوحشية العتمة حيث تقلب الحقائق وتضيع أوراق المظلومين على طاولة المهووسين بالسلطة! البعض يريد اليوم تطهير جو مصر من نكهة الثورة الشبيهة بنكهة القهوة في صباحات القاهرة الجميلة، ويشيع رائحة البحث عن السلطة القريبة من تلك الرائحة التي تفوح من دكاكين الجزارين!

الأكثر قلقاً على الثورة في المجتمع المصري هم المثقفون، فهم الجانب الأشد حساسية ورهافة في ضمير مصر التي رأت الكثير وأبدعت الكثير، ومر تاريخ عريق من بواباتها إلى العالم كله!

في هذا السياق عقد المجلس الأعلى للثقافة في مصر مؤتمراً تحت عنوان الثورة والثقافة: دعا إليه مفكرين وكتاباً مصريين ومن البلدان العربية ليقدوا رؤيتهم وتصوراتهم عن الثورة المصرية والثورات العربية الأخرى، وما ينبغي أن يلعبه المثقفون والثقافة من أدوار فاعلة ومؤثرة في هذه التحولات العميقة والأساسية في مصر، والبلدان العربية الأخرى!

شاكر عبد الحميد وزير الثقافة وهو مفكر وأستاذ جامعي قال في كلمة الافتتاح: quot; الثورة موجودة في المستقبل أكثر من وجودها في الحاضر والماضيquot; وهذا القول يحيلنا إلى شجن عميق : أن ثمار هذه الثورة لم يحن قطافها بعد، فهي مثقلة بهمومها ومهامها التي لم تحل حتى الآن، وبعبارة يتداولها الناس: من المحتمل إلى حد كبير أن جماعات الإسلام السياسي هم من سيأخذ مقاليد السلطة في الوقت الحاضر، لكن الثورة لن تغادر مواقعها، وستبقى تحتل ساحة التحرير حتى تحقق أهدافها كاملة!

قال الدكتور سعيد شعبان الأمين العام لمجلس الثقافة في كلمته أن هذا المؤتمر كان يعد له منذ وقت طويل وكان يفترض أن يقام مع احتفال الثورة بعيدها الأول، لكن المظاهرات والاضطرابات التي حصلت هنا أو هناك دعتنا لتأجيله حتى هذا اليوم. ذلك يطرح القضية من جانب آخر : إذا بقي الناس في حشودهم الهائلة في ساحة التحرير وفي كل أنحاء مصر يكتنفهم صخب وضجيج ومصادمات، ألا يعني هذا أن الثورة لا تجد فسحة هدوء لتأمل ذاتها؟ ولتفكر بصمت وروية: ماذا تحقق وماذا ينبغي أن يكون؟ بماذا نجحت وبماذا أخفت حتى الآن؟ طبعاً من الضروري أن يتمسك الناس والشباب خاصة بالثورة محافظين على زخمها ونبضها ولكن الثورة لا تصنع بالهتاف فقط، بل في الصمت والتفكير في كثير من الأحيان، وهذا المؤتمر هو محطة على هذا الطريق، منه يبزغ الفكر الدقيق المنظم والمدون،فكثير ما يختلف الناس في الشفاهيات وهي ديدن عربي! استدرك الكاتب أحمد بهاء الدين شعبان في كلمته الافتتاحية وأعلن الوقوف حداداً لأرواح الشهداء، ويبدأ استذكار مهم : من يصنع الثورة؟ دم الشهيد أم فكرته؟ يصعب الفصل بين هذين الأمرين العظيمين في لحظة العطاء الكبير، لكن الفكر يظل مطالباً أن يتقدم الدم قبل أن يسفح، فهو قد يقيه الموت، يوفر عليه روحه وعمره للبناء والعيش الكريم دون التفريط بضرورة الثورة ومتطلباتها بما فيها الفداء والتضحية إذا لا مناص منها، لا أن تستسهل الدماء! وتوالى المتحدثون : أحمد النجار شرح مدى الفساد الشنيع الذي اكتنف عمل الدولة في عهد مبارك داخل القطاعات الاقتصادية وعن حجم البطالة وتدني الأجور والفقر والانتهاكات وتزوير الأرقام وتزييف حقائق الإنتاج والدخل القومي التي أدت في تراكماتها إلى هذا الغضب الجماهيري العارم. الدكتورة ليلى غانم القادمة من باريس تحدثت عن دور المرأة في الثورات العربية وآفاق مشاركتها في صنع القرار منوهة بحضور المرأة في ميادين الثورة ومنحها الكثير من طاقتها وإبداعها لها وقدمت تحليلاً هاماً عن قضية الحريات العامة وحرية المرأة بشكل خاص في ظل ارتباط مصر والدولة العربية الأخرى في اتفاقيات دولية مكبلة لقرارها الوطني، أشارت إلى وقوف المرأة المحجبة إلى جانب المرأة السافرة في ساحات الثورة! ولكن ألا يثير ذلك تساؤلاً ملحاً: هل تستطيع المرأة التي عجزت عن أن تتحرر شخصياً من حجابها الخاص أن تحرر مجتمعها من حجبه والمظالم والخرافات الجاثمة عليه ؟ هل جاءت المحجبة إلى الثورة محتجة على الحجاب تريد التخلص منه بعد أن أضحى ظاهرة عامة ضاغطة؟ أم إنها جاءت احتجاجاً على انتهاك القيم الأخلاقية العامة والتي يشكل الحجاب أهمها وقد احتقر من قبل السافرات؟ أسئلة تذوب في التناقضات الطبيعية للثورات، لكن هذا لا يعفي المحلل من تسمية الأشياء! الدكتور محمد عفيفي تحدث عن الطريق إلى الربيع العربي في رؤية تاريخية قال: كان من المتوقع أن تكون هذا الثورات والانتفاضات تالية لانهيار جدار برلين وسقوط أنظمة الاستبداد الشيوعية، لكنها تأخرت لأسباب عديدة بينها غزو صدام للكويت وأحداث 11 سبتمبر وغزو أفغانستان والعراق!

الروائية سلوى بكر اعترضت على المنهاج قائلة : نحن جئنا لنسمع شيئاً عن الثورة والثقافة كما وعدنا شعار المؤتمر، ولكن ما سمعناه كان بحوثاً في الاقتصاد والسياسة! الدكتور طارق النعمان أحد مسئولي المجلس: قال إن ذلك مهم حقا، وندوات اليومين المقبلين ستكرس لذلك!

وقف رجل على رأسه عمامة قشيبة وقدم نفسه على أنه عضو في العديد من الأجهزة الإسلامية واحتج على المتحدثين من المنصة أنهم لم يبدأوا حديثهم بالبسملة، ولم يؤدوا تحية الإسلام! رد عليه الدكتور حسن نافعة إنه بدأ حديثا مبسملاً، ولكن رجل الدين واصل حديثه: ثم انتم قلتم الدين لله والوطن للجميع، بينما الوطن لله أيضاً، هو من يقدر له ما يشاء، ولم أنتم خائفون من الأخوان المسلمين أن يحكموا فيقضوا على الثقافة والأفلام الهابطة؟ لا أنهم لن يفعلوا ذلك إلا بشكل تدريجي! ثمة شاب بجانبي ضحك قائلاً : يعني ذبح بطيء على الطريقة الإسلامية!

هكذا اعتراضات لم تكن تحدث في السابق، وهي مؤشر على شمولية النزعة الدينية المتحفزة للوثوب إلى السلطة، والتي هي هاجس معظم المشاركين في المؤتمر!
ولكن نائباً في البرلمان من التيار الإسلامي تحدث في القاعة بلغة هادئة ولهجة روحانية وحاول طمأنة المثقفين على مستقبلهم ومستقبل الثقافة في مصر في ظل الشريعة الإسلامية!

ثمة شاب قال إنه أستاذ للغة العربية في إحدى جامعات موسكو طالب المحاضرين ومن يناقشونهم في القاعة بان يكونوا موضوعيين في تناولهم للإسلاميين ولا يشنوا النقد الحاد عليهم،وأكد على ضرورة دعوتهم ليكون الحوار متبادلاً، وليردوا بأنفسهم على ما ينسب إليهم من اتهامات وأحكام!

في القاعة تحس باهتمام القائمين على المؤتمر أن تكون الحوارات عميقة ومتكاملة لتتبلور عنها أفكار وتوصيات عميقة وجادة تفيد فعلاً في تحقيق إضاءة في طريق الثورة الشاق والطويل. وزير الثقافة لم يبرح قاعة الجلسات، شارك الحاضرين نقاشاتهم كواحد منهم، أكد على ضرورة الانفتاح على الرأي الآخر، وإشاعة أجواء صحية للنقاش وعدم احتكار الحقيقة، وروى حكاية قديمة عن أن الحكمة كلها تتلخص في كلمة (ربما) فقد يكون الصواب والحق معي أو مع الآخر، ربما! في الواقع كما لمست، الشخصية المصرية بطبعها مرنة كثيراً، ومجبولة فطرياً على تقبل الآخر!

المجلس كله مستنفر لإنجاح هذا المؤتمر، رئيس المجلس يتفقد ابسط شئونه، الشاعر اشرف عامر أحد المسئولين فيه رغم قلبه المتعب يراجع تفاصيل ما أعد وما نفذ، الموظفون يدورون في انضباط دقيق قائمة طويلة من المفكرين والكتاب والأكاديميين بينهم من العرب فيصل دراج وكريم مروة جاءوا يحملون آراءهم وتصوراتهم ومقترحاتهم. بذلك تحول المؤتمر إلى ورشة عقل وتفكير ملحقة بساحة التحرير، يحاول أن يضع أو يصف نظرية ثورية مناسبة لثورتها حيث لا ثورة حقيقية دون نظرية ثورية،قد ينجح المؤتمر في ذلك وقد يفشل لكنها محاولة جادة على أي حال! هي ثورة صنعها الشباب وتولى أمرها الكهول والشيوخ، لقاء بين حرارة القلب وعنفوانه، وبرودة العقل وتريثه! أقيم المؤتمر في أحدى دور الأوبرا، لا يفصله عن ساحر التحرير سوى النيل يجري هادئاً مطمئناً محملاً بظلال أغاني ومواويل الفلاحين والصيادين المصرين المفعمة بالحزن والعذوبة والحكمة أيضاً،ليت هذا يحدث في كل بلد عربي انتصرت فيه الثورة، أو أجلت وأجهضت كما في العراق مثلاً!