تركيا اليوم، الداخلة مع أكثر من بلدٍ جار في أكثر من توتر وأكثر من أزمة، والتي تعتبر مشاكل جيرانها مشاكلها، وتتعاطى مع أزماتهم الداخلية كأنها أزمتها، ليست بتركيا الأمس أو تركيا ما قبل quot;الربيع العربيquot;، التي اتخذت من quot;سياسة تصفير المشاكلquot;، شعاراً لديبلوماسيتها، طيلة أكثر من عقدٍ من الزمان.
تركيا حزب العدالة والتنمية، التي دأبت لسنوات، من خلال صاحب نظرية quot;العمق الإستراتيجيquot;، ومهندس ديبلوماسيتها الأول، ووزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو، إلى quot;تصفيرquot; مشاكلها مع الجيران، وحققت من خلال هذه السياسة المنفتحة على الخارج، نجاحات غير قليلة مع محيطها الإقليمي بشكلٍ عام، والعربي بشكلٍ خاص، دخلت الآن، كما يبدو من تصريحات مسؤوليها الكبار، وأخذهم وردّهم مع الأزمات المشتعلة على حدودها، مرحلة جديدة من القيام والقعود مع جيرانها المأزومين.
فهي، بعد دخولها مع جارتها سوريا إلى قلب أزمتها، وأخذها لمشكلة الداخل السوري بإعتبارها مشكلتها، ودعمها لبعض المعارضة السورية(السنية بشكلٍ خاص)، وquot;تفجيرهاquot; للمشاكل معها، على أكثر من مستوى، وعبر أكثر من قناةٍ، بدأنا نسمع هذه الأيام بquot;التفجيرquot; التركي ذاته، للمشاكل ذاتها، مع الجار العراقي أيضاً.
في ردٍّ واضحٍ على دور رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، كضلعٍ أساس في quot;المثلث الشيعيquot;(إيران +العراق+سوريا) ودعمه لنظام بشار الأسد في حربه quot;الطائفيةquot; ضد شعبه، سارعت تركيا إلى الدخول على خط الأزمة مع العراق، كطرفٍ فيها، كما بدا من تصريحات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، الذي حذّر المالكي، بلهجة لم تخلو من التهديد والوعيد، من مغبة quot;استئثارquot; نظيره العراقي بالسلطة، وquot;تمييزه بحق السنة في حكومتهquot;، وquot;إذكائه التوترات الطائفية بين الشيعة والسنةquot;، مهدداً إياه، قائلاً: quot;على المالكي ان يفهم هذا الامر: اذا بدأتم عملية مواجهة في العراق تحت شكل نزاع طائفي، فلا يمكن ان نبقى صامتينquot;. وهو ما حدا بالمالكي إلى الردّ سريعاً، متهماً تركيا بحكم quot;السياسات الطائفية التي ينتهجها أردوغان في المنطقةquot; بquot;الدولة العدائيةquot;.
هذه الإتهامات والتهديدات المتبادلة بين بغداد وأنقرة من جهة، وبين هذه الأخيرة ودمشق من جهةٍ أخرى، إن دلّت على شيءٍ، فإنها تدلّ في المقام الأول، على تغيّر واضح في السياسة الخارجية التركية تجاه جيرانها، وتحوّلها من quot;سياسة تصفير المشاكلquot; معها، إلى quot;سياسة تفجير المشاكلquot;، دون أن ننسى بالطبع، أنّ ما يجري في المنطقة من صراعٍ طائفي(سني شيعي)، يتخذ الآن من سوريا والعراق ساحةً له، هو في بعضه غير القليل، صراع تركي إيراني على المنطقة العربية، لا سيما بلاد الشام والخليج العربي.
تاريخياً، كانت تركيا(يعيش فيها حوالي 20 مليون كردي محرومين من كافة حقوقهم القومية، كشعب يعيش على أرضه التاريخية) حريصةً على إدامة الصلة مع بغداد ودمشق وطهران، للوقوف ضد quot;الخطر الكرديquot;، والحؤول دون تحقيق الأكراد لحلمهم في إقامة quot;كردستان مستقلةquot;. لكنّ قواعد اللعبة في الصراع الدائر الآن في المنطقة، يبدو أنها تغيّرت.
تركيا تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، كما هو معروف من نهجها quot;الإسلامي المعتدلquot;، لم تعد بquot;تركيا الأتاتوركيةquot;، التي قامت على الفصل الكامل(لا بل الراديكالي) ما بين الدين والدولة، أو ما بين quot;دستور الدينquot; ودستور الدولة.
فالفرق بين التركيّتين، هو كالفرق بين أردوغان القائل، ذات مرّة، بأنّ quot;العلمانية كذبة كبرى، ولا يمكن للمرء أن يكون مسلماً وعلمانياً في آنquot;، وأتاتورك الذي ألغى الخلافة العثمانية، بإعتبارها quot;دولة دينية متخلفة عائقة استنزفت رجال وأموال تركياquot;، وبنى على أنقاضها دولة علمانية.
الثلاثي الحاكم(أردوغان وأوغلو وغول) لم يخفِ يوماً حلمه الإسلامي بإحياء quot;الخلافة العثمانيةquot;. ولم يدخر الثلاثة جهداً في وصف أنفسهم بquot;العثمانيين الجددquot;. ففي لقاءٍ له مع نواب العدالة والتنمية في معسكر quot;قزلجة حمامquot;(تشرين الثاني 2009) قال وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو بالحرف: quot; إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية. إنهم يقولون هم العثمانيون الجدد. نعم نحن العثمانيون الجدد. ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا. نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال أفريقيا. والدول العظمى تتابعنا بدهشة وتعجب.quot;
لا شكّ أن تركيا تحت قيادة العدالة والتنمية، لا تزال تنظر إلى نفسها من هذا المنظار الديني quot;الخلافويquot;، بكونها quot;وريثة عثمانيةquot; أكيدة، تسعى بكلّ جهدها لإحياء quot;المُلك العثمانيquot; في المنطقة وبسط سيطرتها عليها بطرق ووسائل جديدة. لكنّ قواعد اللعبة في المنطقة تبدّلت، خصوصاً بعد تفجّر الأزمة في سوريا، التي تحوّلت بحكم الصراع الإقليمي والدولي عليها، وتطوّرت إلى صراع طائفي بإمتياز، أصبحت تركيا فيه طرفاً ولاعباً أساسياً.
ما تشهده المنطقة من استقطابات وتجاذبات إقليمية، هي بالدرجة الأساس، نتيجة للصراع الطائفي الخفي حيناً والمستور أحياناً أخرى، والذي تشكّل فيه تركيا(بقيادة العثمانيين الجدد) مقابل إيران(تحت إمامة quot;الصفويين الجددquot;) طرفاً أساسياً في أزمته المشتعلة، على حدودها مع سوريا، منذ 14 شهراً.
سياسة تركيا(السنية) التي كانت تقوم مع الجيران على quot;تصفير المشاكلquot;، باتت في ظلّ ما تشهده المنطقة من صراعٍ طائفيٍّ مكشوف، لا مجال فيه للحياد، على مفترق طرق.
تركيا، في ظلّ الصراعات الطائفية التي تشتعل على حدودها مع سوريا والعراق، لن quot;تصفّرquot; من الآن فصاعداً المشاكل مع الجيران، لأنّ ذلك سيعني قبل كلّ شيء quot;تصفيراًquot; لدور تركيا(السنية) في المنطقة، مقابل صعود إيران(الشيعية) التي تحاول بسط نفوذها من خلال جيوبها المنتشرة على امتداد quot;هلالها الشيعيquot;.
ومن هذه الزاوية بالضبط، يمكن قراءة الموقف التركي من ثورات quot;الربيع العربيquot; والقوى الإسلامية الصاعدة، التي احتلت مواقع متقدمة في المشهد السياسي في مرحلة ما بعد الثورة، كما هو الحال في تونس ومصر وليبيا.
حزب العدالة والتمنية الحاكم في تركيا، المتهم من قبل العلمانيين بquot;تنفيذه خطة سرية لأسلمة الدولةquot;، رغم تركيّة آيديولوجيته الإسلامية، واتخاذه من حدود تركيا حدوداً لسياساته، إلا أنّ قادته لا يتوانون عن تصدير quot;إسلامهم السياسيquot;، إلى المنطقة، كquot;إيديولوجيا عابرة للحدودquot;، على غرار إيديولوجيا quot;جماعة الإخوان المسلمينquot;، مع الأخذ بعين الإعتبار وجود فارق بالطبع بين الآيديولوجيتين، اللتين تجتمعان على الدين، وتفترقان على السياسة.
وما نشهده الآن من تبنٍ تركي لبعضٍ من المعارضة السورية الممثلة بquot;المجلس الوطني السوريquot; المحكوم بالأغلبية السنية(الأخوانية)، هو خطوة استباقية في هذا الإتجاه(الصحيح تركياً بالطبع، وفقاً لمصالح تركيا العليا)، لأجل التمهيد لنفوذ تركي قادم سهل، في سوريا ما بعد الأسد.
تركيا كدولة quot;سنيةquot; كبيرة، والتي يرى فيها العرب quot;حليفة استراتيجيةquot; مهمة لهم، لمواجهة quot;المدّ الشيعيquot;، لن تقف حياديةً، مكتوفة الأيدي إزاء هذا الصراع الطائفي المشتعل على حدودها، ولن تترك إيران تسرح وتمرح في المنطقة، بلا حدودٍ، كيفما وإينما ومتى تشاء.
هي، ستنحاز على الأرجح، في هذا الصراع الطائفي لسنيتها، ليس انتقاماً لتاريخها العثماني الماضي، من quot;إيران الصفويةquot; الماضية فحسب، وإنما أيضاً انتقاماً لتاريخٍ لا يزال في الحاضر يستمر، ويتكرر، ويعيد نفسه، بين الحين والآخر، بهذا الشكل أو ذاك، هنا وهناك، لكأنه حدث أو يحدث الآن.
هذا من جهة انحياز تركيا quot;الضروريquot; لطائفتها.
أما من جهة انحيازها quot;الأكثر من ضروريquot; لقوميتها، التي ليس للتركي وفقاً لآيديولوجيتها الأتاتوركية، quot;إلا أن يساوي العالمquot;، فلن تعيد تركيا quot;التاريخ الخطأquot; ذاته مع العراق، عندما نأت بنفسها عن الصراع قبل عقدٍ من الزمن، فطار العراق من بين يديها ليرتمي في الحضن الإيراني، هذا ناهيك عن صعود نجم الأكراد، وتأسيسهم لكيان شبه مستقل لهم على حدودها.
تركيا لن تسمح لعراق ثانٍ أو كردستان ثانية أن يتكررا على حدودها مع سوريا.
لهذا كانت تركيا أول المتدخلين على الخط في الأزمة مع سوريا، وأول المتبنين لإحتضان مؤتمرات المعارضة السورية، ليس لأنها كانت الأكثر حرصاً على الثورة السورية، وعلى الدم السوري المسفوك منذ 14 شهراً، وإنما لأنها كانت ولا تزال الأكثر خوفاً من الداخل السوري على داخلها، ومن قادم سوريا على قادمها.
تركيا غير المعترفة، حتى اللحظة، بحقوق أكرادها بملايينهم العشرين، لن تسمح للمعارضة السورية الخارجة من تحت إبطها، أن تتخطى quot;خطوطها الحمرquot;، وتخرج بالتالي من حدود نظرتها إلى القضية الكردية، والتي لا تحسبها أكثر من قضية بعض مواطنة وبعض حقوق ثقافية. والخلاف الأخير الذي حصل في مؤتمر اسطانبول الأخير، بين المجلسين quot;الوطني السوريquot; وquot;الوطني الكرديquot;، بسبب quot;تهميش الأول لحقوق أكراد الثانيquot;، كان بالأساس خلافاً أرادت له تركيا أن يكون، قبل أن يكون خلافاً سورياً بين المعارضين السوريين أنفسهم، عرباً وأكراداً.
تركيا، بإستثناء فتحها لأراضيها أمام اللاجئين السوريين، ونشاطات بعض المعارضة السورية الممثلة بquot;المجلس الوطني السوريquot;، وبعض التصريحات التي لم تخرج من حدود الكلام الروتيني، الصاعد أحياناً والنازل أحياناً أخرى، لم تساهم حتى الآن في دفع القضية السورية ولو خطوة واحدة نحو الأمام. بل على العكس، هي زادت في بعض الأحيان، بمواقفها الضبابية، والمتذبذبة، والمتأرجحة بين مدٍّ وجزر، طين الأزمة السورية بلّة.
هي لعبت في سوريا وبها وعليها، ولا تزال، أكثر بكثير من أن تلعب لها.
تركيا، ستفعل كلّ شيء، لأجل تعويض ما خسرته مع العراق في سوريا.
هي، لن تسمح لسوريا التي تشترك معها في حدود طويلة تصل إلى حوالي 900كم، أن تطير كالعراق من بين يديها.
تأسيساً على كلّ ما سبق، حتى لا تصبح مشاكل الجيران، من الآن فصاعداً، مشاكلها، ولئلا تنتهي أزمة quot;الداخل الجارquot; إلى أزمة في داخلها، ليس لتركيا، كما تقول ظاهر وباطن تصريحات المسؤولين الأتراك الأخيرة، إلا أن quot;تفجّرquot; المشاكل مع الجيران، أيّ أن تتحوّل على مستوى الخارج، لا سيما الجار القريب منه، من quot;سياسة التصفيرquot; إلى quot;سياسة التفجيرquot;.
التعليقات