لعل من نافلة القول، ان التغييرات التي تعصف ببنية الانظمة السياسية الحاكمة، ومعها منظومات النسق الاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي هي تغيرات غير مسبوقة كما ونوعا.
تقوم هذه الدراسة على فرضية مفادها ان الربيع العربي في نتيجته النهائية سيقود الى هيكلة العالم العربي على نحو هندسي شكله الاول عبارة عن منجل ممتد من تونس الى ليبيا مرورا بمصر والاردن وسوريا وينتهي عن تركيا والاخر هلال شيعي يضم العراق وايران نزولا عند بعض مناطق الخليج العربي وكما سنوضحه لاحقا في هذه الدراسة، التي سبق ان تم ذكرها من قبلنا في اكثر من حديث تلفازي عند بدء الثورة وقبل اي انتخابات جرت ويستطيع القارئ ايجادها على اليوتيوب.
اولا: الربيع العريب وخيارات القوى الكبرى.
ان السؤال الذي يفرض نفسه، هو هل ستدع القوى الكبرى هذه التغييرات بعيدا عن سيطرتها؟ الجواب ببساطة متناهية كلا، لان منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا تعد منطقة نفوذ تقليدية سواء للولايات المتحدة الامريكية او الاتحاد الاوربي لاسيما فرنسا وبريطانيا.
وتبدو خيارات هذه القوى في التعامل مع هذه الثورات محدودة الى حد كبير، فهي تكاد ان تكون امام خيارين الاول : ان تدعم قوى محسوبة على الانظمة السابقة كي تكون بديلا مقبولا يسهل التعامل معه مستقبلا، كما انه يشكل خيارا فيه قدر قليل من المغامرة، اما الخيار الثاني فهو تقبل فكرة حكم التيارات الدينية للعالم العربي، لاسيما من قبل الاخوان المسلمين، وما ينطوي عليه من تغير في المعادلة السياسية في تلك البلدان.
وبالنسبة للخيار الاول تعد المؤسسة العسكرية في تلك البلدان هي اكثر المؤسسات ترشيحا لان تلعب دورا رئيسا في سواء عن طريق الحكم المباشر او عن من خلال ترشيح شخوصا من قبلها سواء من داخل هذه المؤسسة او من خارجها لكنهم يحضون بمباركة هذه المؤسسة وهذا الاحتمال وارد جدا في بلدان مصر واليمن، وربما بدرجة اقل في تونس، وتكاد ان تكون معدومة في ليبيا لضعف المؤسسة العسكرية فيها، وكذلك في سوريا لان غالبية القيادات العسكرية السورية هم من الطائفة العلوية ولو حدث تغيير لن يتقبل غالبية السوريين من الطائفة السنية تولي قائد عسكري علوي، فضلا عن انه سوف ينظر الى المؤسسة العسكرية السورية بانها ساندت الرئيس بشار الاسد وبالتالي فانها خانت ثقة الشعب السوري.
لكن هذه الحالة تبدو معكوسة في مصر، إذ تمتع المؤسسة العسكرية المصرية بقدر كبير من الاحترام بين مظم المصريين لتاريخها من جهة ولدورها في حماية الثوار، كما ان المؤسسة العسكرية المصرية تتسم بانها تملك بنية اقتصادية كبيرة، إذ انها تهمين على نشاطات اقتصادية كبيرة، تؤهلها للعب دورا اكبر من نظيراتها في المنطقة.
ثانيا : الاخوان المسلمون من طريد الى جاذب.
اما المشهد الثاني فتمثل بوصول تيار الاخوان المسلمين الى السلطة وما يتبعها من تغييرات في المشهد السياسي العام في الك البلدان.
وينبغي ان نقر بان الاخوان هم اكثر التيارات تنظيما في جميع البلدان التي حدثت فيها الثورات من بقية التيارات الاخرى، لاسيما وان الأنظمة السياسية المستبدة قد ساهمت في ذلك حين قمعت وأفقرت والأهم منعت الجدل الفكري والسياسي الذي يؤدي إلى تشكيل الأحزاب السياسية القادرة على أن تقود الشعوب، وان تقدم البديل في حال أسقط الحكم، لذا فان البديل الديني او من يمثله او ينوب عنه سيكون حتما هو البديل الارجح امام هكذا نموذج في الدول العربية والاسلامية، على الرغم من ان من شرارة الثورة الاولى لم يقم بها الاخوان بل مجاميع من الشباب استطاعوا ان ينتقلوا من اطار المجتمع الافتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي ( الفيس بو والتويتر تحديدا) الى اطار المجتمع الواقعي من خلال تنفيذ رؤى التغيير التي تم تبنيها على هذه المواقع الى حقيقة قائمة ومعظم هؤلاء لم يكونوا ينتمون الى الاخوان بل هم خليط غير متجانس ايديولوجيا وهذا ما اتضح لاحقا عند محاولة هؤلاء الشباب تحويل انفسهم الى تنظيمات سياسية، حينها اكتشف هؤلاء مدى التنوع الذي يضم حركتهم (من اقصى اليمين الى اقصى اليسار ومابينهما).
ويرى الكثير من المتابعين ان حركات الاخوان سواء في مصر او بقية البلدان قد انضمت لاحقا الى الثورات بعد ان شعرت بامكانية حدوث التغيير، وقد ينظر البعض لهذا الامر بانه نوع من الانتهازية، الا انه من الصعوبة بمكان نكران حقيقة مفادها ان الاخوان كانوا دائما تحت ضغط السلطات والملاحقة الأمنية التي تطاردهم في اكثر من مكان، لذا فانهم شعروا انهم سيكونوا اول المتضررين او انهم سيكونوا كبش فداء، اذا ما فشلت تلك الثورات ومن هنا نستطيع ان نفهم التروي وعدم استعجال الاخوان في اتخاذ قرار الانظمام الى تلك الثورات.
لقد تحول الاخوان من تيار معزول مطارد ويرزخ قاداته في السجون والمنافي الى قوة سياسية فاعلة تستعد لتولي مواقع السلطة او على الاقل المشاركة فيها.وهذا يؤكد مسالة تجاهلتها النخب الحاكمة في سعيها نحو ترسيخ حكمها الاستبدادي إن النظام السياسي الذي يحجب رؤية بعض القوى السياسية فيه عن العالم الخارجي هو نظامٌ يعيش خارج دائرة العصر.
ثالثا: اخوان تونس نجاح جزئي وهواجس مستقبلية
بالنسبة الى تونس فان فوز حزب النهضة ذو التوجه الاسلامي القائم على منهج وفكر الإخوان المسلمين بقيادة راشد الغنوشي قد اعطى اولى المؤشرات على هيمنة الاخوان على المشهد السياسي في الربيع العربي وما يليه.
وقد حاول الحزب ان يبعث الاطمئنان الى الداخل والى الخارج في تعامله الحذر مع قضايا عدة منها الموقف من الحكم والمسائل المتعلقة بالمرحلة الانتقالية والقانون الانتخابي ووضع دستور جديد للبلاد وحقوق المراة، فعلى سبيل المثال اشار راشد الغنوشي حال منح الترخيص لحزبه الى القول ان quot;حركة النهضة تجدد تمسّكها بمبادئها المعلنة واحترامها للتنوّع والحق في الاختلاف ورفضها للوصاية علي الإسلام وتمسّكها بالعمل المشترك على قاعدة النّضال من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي وتجسيد مبادئ الثورة (التونسية) وتحقيق مطالبها.مؤكدا في الوقت نفسه على ان حزب النهضة يرى في الانموذج التركي خلاصة ناجحة بين الإسلام والحداثة. فيما اكد في مناسبة لاحقة على ان حزب النهضة لا ينوي الانتقاص من مكتسبات المرأة التونسية التي تعد الاكثر تقدما في العالم العربي. وقال ان quot;قانون الاحوال الشخصية (الذي اعد ايام الرئيس بورقيبة) والمكتسبات التي حصلت عليها المرأة لن يمس نحن ندرك ان النساء يشكلن نصف المجتمع ونحن نحتاج الى اصواتهنquot;.
بيد ان الملاحظة الجديرة بالاهتمام هي ان حركة النهضة بوصفها التجسيد الحركي للاخوان المسلمين في تونس تعد اكثر تقدما وتمايزا عن اخون مصر وبقية اخوان الشرق، ويعود ذلك الى ان نافذة اخوان تونس غالبا ما كانت تطل على اوربا ومايشكله ذلك من تفاعل فكري وحضاري مع الحضارة الغربية، فضلان عن أن هجرة عدد من قياديي النهضة إلى أوروبا بداية تسعينيّات القرن الماضي (فرار من اضطهاد نظام زين العابدين بن علي) وquot;احتكاكهم بديمقراطيّات الغربquot; كان له دور هام في quot;تطوير قراءة الحركة للنص الدينيquot; وquot;مراجعة قناعاتها الدينيةquot;. والتي ابتدأت بشكل واضح في كتابات راشد الغنوشي منذ عام 1993 حينما اصدر كتابا بعنوان quot;الحريات العامة في الدولة الاسلاميةquot;. بل ان المتتبع لمسار حركة النهضة يشاهد ان حركة النهضة مرت بتحولات عدة، اذ حظيت الحركة عند تاسيسها في بادئ الامر عام 1969 تحت اسم الجماعة الاسلامية على يد الغنوشي وعبدالفتاح مورو واحميدة النيفر بفترة قبول نسبي من قبل السلطة من اجل مواجهة تنامي التيار اليساري، الا ان رغبة قاداتها في تحويلها الى حزب سياسي صريح من خلال تقديم طلب رسمي للسلطات التونسية عام 1981 باسم حركة الاتجاه الاسلامي عام، افضى الى التصادم مع السلطة وسجن معظم قاداتها. لان السلطات التونسية رات فيها محاولة لتقويض من هيمنتها ومحاولة للالتفاف عليها، وحكم على الغنوشي ومور بالسجن لمدة عشر سنوات، ولم يفرج عن الاول الا عام 1984 والثاني عام1983، ومع ازدياد شعبية الحركة في منتصف الثمانينات عادت العلاقة بينهما الى الصدام،ليعود قادتها الى السجن عام 1987 كرة أخرى، ومع تولي بن علي مقاليد الحكم في نفس العام، شهدت العلاقة بين السلطة والحركة نوع من الهدنة والانفتاح، وقامت الحركة بالتوقيع على ماسمي بوثيقة الميثاق الوطني، وفي عام 1989 دخلت في الانتخابات تحت لوائح مستقلة وحصلت على ما يقارب 13%، وفي نفس العام غيرت الحركة اسمها الى حركة النهضة كي تتماشى مع متطلبات قانون الاحزاب الصادر عام 1988، الذي منع اقامة الاحزاب على اساس ديني.
بيد ان تفرد بن علي بالسلطة وازدياد قوة ونفوذ الحركة اديا الى حدوث القطيعة بينهما، لتتعرض الحركة ورموزها الى اسلوب التنكيل، ازداد حدة اثر ماسمي بحادثة باب السويقة عام 1991 ( وهي الحادثة التي وقعت في منطقة باب السويقة وفيها قامت مجموعة من الحركة بالهجوم على احد مقرات الحزب الحاكم quot;التجمع الدستوري الديموقراطيquot; في عهد بن علي واسفر عن قتل احد الحراس، وعلى اثره أحيل آنذاك نحو 30 ناشطا من الحركة على القضاء بتهمة الاشتراك في هذا الهجوم)، وقد ادت هذه الحادثة الى انشقاق داخلي داخل الحركة، خاصة جناح عبدالفتاح مورو الذي رفض استخدام العنف في العمل السياسي. بينما آثر أحميدة النيفر الانزواء والتنحي جانبا من اجل التفرغ للعمل الاكاديمي.
لقد قادت تلك الاحداث الى مراجعة فكرية داخل الحركة كان من شأنها التاكيد على رفض العنف في العمل السياسي وتبني رؤى اكثر ليبرالية تقارب النهج التركي في التعامل مع القضايا الرئيسة وهذا ما اكده مثلما اشرنا اليه سابقا الغنوشي في اكثر من مناسبة.
لقد ادار حزب النهضة اللعبة السياسية بنجاح ملفت سواء قبل الانتخابات ام بعدها، إذ ان فوزه الكبير لم يقوده الى محاولة الاستيلاء على كل شي بل انه اتخذ مبدأ القيادة بالمشاركة، مما سمح للقوى الاخرى التي ساهمت في الثورة ان تشارك في الحكم وان لا تشعر انها منعزلة عن عملية بناء النظام السياسي الجديد، وهو ما يعكس النظرة الحداثية التي تجعل اخوان تونس اقرب الى النموذج الغربي منه الى النموذج الشرقي.
الى جانب ذلك، فان موقف حزب حركة النهضة من قضايا عدة لعل من اهمها التمسك بالفصل الأول من الدستور التونسي لعام 1959، قد اعطى رسالة مريحة لشركائه من العلمانيين، وللخارج بان حزب النهضة متمسك بالقيم المدنية، وفي هذا الصدد اشار الغنوشي quot; أن حركة النهضة تؤمن بان الدين هو حرية وانه لا يمكن التعويل على القانون لفرض الإسلام والفضيلة مبينا ان مدنية الدولة لا تتعارض مع الإسلام وأنها لا تريد أن تكون سببا في تقسيم المجتمع التونسي بين إسلاميين وحداثيين.
بيد ان ثمة هواجس وانتقادات وجهت الى حزب النهضة من بينها استخدام المساجد من قبل خطباء سياسيين، اثار شكوك أوساط علمانية في البلاد تشدد على ضرورة تقيد الدولة التونسية بقواعد فصل الدين عن السياسة. بينما رأ البعض الاخر في منح الترخيص لحزب النهضة يمثل quot;انتهاكاquot; للدستور التونسي ولقانون الأحزاب التونسي( الصادر سنة 1988). كما ذهب آخرون ان الحزب حصل على دعم مالي من قبل قوى خارجية لاسيما من بعض دول الخليج ( قطر تحديدا)، مما منحه فرصا لا تتوافر لبقية الاحزاب. فضلا عن ان الحزب قد اتبع مبدأ quot; التكنوقرابquot; اي اختيار تكنو قراط للوزارات والمناسب الادارية لكنهم في نفس الوقت مقربين من ناحية قرابة الدم او النسب او المصاهرة.كما ان لاداء الاقتصادي لم يكن مقنعا بما فيه الكفاية، إذ بلغ معدل النمو بعد تشكيل الحكومة نسبة 1.8%. كما يؤخذ على حزب النهضة تقاعسه في منع الاصطدام بين المجموعات السلفية والعلمانية، ويشير بعض المحللين ان الحزب يرى في هذه المشاهد المتكررة عملية ايجابية لانها ستؤدي الى نفور الجمهور من كليهما، وبالتالي تفضيل حزب النهضة كخيار عقلاني.
التعليقات