الصابئة تعتبر من الأديان التى ذكرها القرآن الكريم ثلاث مرات فى سور مختلفة مقرونة بالإسلام والمسيحية واليهودية من أهل الكتاب.

منها قوله تعالى (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة المائدة- الآية 69، وهى فى مقام مديحهم فى مراتب عالية فى الجنة مقرونين بأهل الكتب السماوية

كذلك أيضا (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولا هم يحزنون) سورة البقرة- الآية 62 فى مقام المدح فى الآخرة كذلك مع أهل الكتب السماوية بالشرط الإيمانى والعمل الصالح

كذلك جاءت فى التفاسير والأحاديث النبوية أنهم أصحاب كتاب سماوى ولهم نبى من أنبياء الله قيل أنه يحيى بن زكريا وجاء فى نزولها سؤال البعض عن موقعهم فى الآخرة فنزل الوحى ليثبت إمكانية الجنة والمقام الرفيع لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما أشارت إلى ذلك أحاديث كثيرة

من أبرز الأمثلة الرائعة فى تاريخ العراق هو ابو اسحاق ابراهيم بن هلال بن ابراهيم الحراني الصابي (313- 384هـ) وتعايشه البناء مع الرموز الإسلامية فى بغداد. كان أبو إسحق الصابى شاعرا معروفا وأديبا متميزا وله مواهب كثيرة، وقد كانت شهرته الأدبية تغنى عن صفته الأدبية والبلاغيه حتى قيل

أصبحت مشتاقا حليف صبابة برسائل الصابى أبى إسحاق

صوب البلاغة والحلاوة والحِجى ذوب البراعة سلوة العشاق

طورا كما رق النسيم وتارة يحكى لنا الأطواق فى الأعناق

لايبلغ البلغاء شأو مبرز كتبت بدائعه على الأحداق

كان أبو إسحق قريبا من المسلمين وشخصياتهم وكان يصوم رمضان ويحفظ القرآن وعرف بمساعدته للمسلمين وحسن عشرتهم ومواقف مشهودة وتقلد مناصب هامة وكبيرة وعرضت عليه الوزارة فرفضها لشروط معينة فيها رغم كونه نائبا فى الوزارة بديوان الإنشاء وأمور الوزارة حتى عدّ الأوحد فى إنشاء الرسائل حتى للديوان فقد كان أكتب كتاب عصره بلا منازع. قال ابن خلكان فى كتبه الوفيات (يبدو أن صلاته بالخلفاء والأمراء جعلته موضع ثقة الدولة) وقال عنه الثعالى فى يتيمته أنه أوحد العراق فى البلاغة وقال ياقوت الحموى فى معجمه أنه أوحد الدنيا فى إنشاء الرسائل والإشتمال على جهات الفضائل.

لذلك كله كانت رسائله ذات قيمة علمية وتاريخية وتوثيقية كبيرة جدا لأنها تؤرخ للعراق وبغداد أهم الأحداث على أعلى المستويات فى العصر العباسى وتساعد فى فهم الحقبة التاريخية المعقدة آنذاك

وكان بينه وبين المسؤولين المسلمين على أعلى المستويات رسائل متبادلة تدل على الإحترام والتعاون المثمر والتلاقح الفكرى البناء رغم بعض الخلافات ومنها الرسائل مع سيف الدولة بن حمدان وعضد الدولة وغيرهم

كتب الصابى فى مختلف ألوان الشعر من المديح والهجاء والأدب والغزل والنسيب وغيرها، ومن روائع أشعار أبي إسحاق الصابي في بعض الوزراء:
وكم من يد بيضاءَ حازت جمالَها يدٌ لكَ لا تَسْوَدُّ إلا من النِّقسِ
إذا رقشت بيضَ الصحائِف خلتَها تطرِّزُ بالظلماءِ أرديةَ الشمسِ

كانت تلك الفترة تمثل لونا رائعا من التسامح والتعايش البعيد عن التعصب أيام الخلافة العباسية حيث يصل الصابى إلى مستوى الوزارة والديوان والإعتماد عليه فى مراكز القرار والأخلاق الإسلاميى المنفتحة والمستفيدة من كل الطاقات الخيرة بعيدة عن التحجر وضيق الأفق ومن الجانب الآخر امتياز أبى إسحق وكفاءاته ليكون حديث عصره فى البلاغة والرسائل والتوثيق فقد كان ذا خلق رفيع وأدب سام وقدرات علمية كبيرة فله ديوانه وكتاب التاجى التاريخى فضلا عما كتبه فى الرياضيات والفلك وغيرها

قال القفطى: كان الصابى عالما بالهندسة والهيئة والرياضيات

هذا وقد عالج الصابى جدلا طويلا فى التمايز بين النظم والنثر فألف رسالة ذكرها أبو حيان التوحيدى فى كتابه المقابسات يقول الصابى فيها

النثر اشرف جوهرا والنظم اشرف عرضا،قال وكيف ؟ قلت له: لأن الوحدة في النثر أكثر والنثر الى الوحدة اقرب فمرتبة النظم دون مرتبة النثر لأن الواحد أول و التابع له ثان

فالصابى يرى صناعة الشعر غير صناعة النثر والأولوية للنثر على الشعر حيث يرى الغموض فى الشعر والوضوح فى النثر وهى نظرية مقابل نظريات أخرى، سواء معاكسة للمبرد والباقلانى وابن رشيق أو موازنة وسطية بينهما كالجرجانى والعسكرى لم يجعل أضلية بين النظم والنثر

قال ابن الأثير: كان الصابى إمام علم الكتابة والواحد فيه

كتب الصابى إلى الشريف الرضى أبى الحسن محمد بن الحسين الموسوى (ت406 ه) فى عيد الأضحى المبارك

مرجيك وصابيكا بذا الأضحى يهنيكا

ويدعو لك والله مجيب ما دعا فيكا

وقد أوجز إذ قال مقالا وهو يكفيكا

وقال له الشريف الرضى

أكرر فى الإخوان عينا صحيحة على أعين مرضى من الشنآن

فلولا أبى إسحق قل تشبثى بخل وضربى عنده بجران

وقال له بقصيدة أخرى

من الله أستهدى بقاك وأن ترى محلا لأيام العلى بمكان

وأسأله أن لاتزال مخلدا بملقى سماع بيننا وعيان

إذا ما رعاك الله يوما فقد قضى مآرب قلبى كلها وعيانى

من أروع ما مدح الصابى قول بعضهم

ثكلتكَ أرضٌ لم تلد لكَ ثانيا أنـّى، ومِثلكُ مِعوزُ الميلاد

الشريف الرضي تألم كثيرا لوفاة الصابى فرثاه بقصيدة عظيمة رائعة خالدة قال فيها
اعلمت من حملوا علي الاعواد ارايت كيف خبا ضياء النادى
جبل هوي لوخر في البحر اغتدي من وقعه متتابع الازباد
ما كنت اعلم قبل دفنك في الثري ان الثري يعلو على الاطواد
بعداً ليومك في الزمان فانه اقذي العيون وفت في الاعضاد

يا ليت أنى ما اقتنيتك صاحبا كم قنية جلبت أسى لفؤاد

الفضل ناسب بيننا إذ لم يكن شرفى مناسبه ولا ميلادى

إن لا تكن من أسرتى وعشيرتى فلأنت أعلقهم يدا بودادى
وعاتب البعض الشريف الرضي على قصيدة الرثاء للصابي لكونه شريفا يرثي صابئيا، فقال: (انما رثيت فضله وعلمه وأدبه) ثمّ قرأ لهم الآيات القرآنية فى مدح الصابئة وجعلهم فى مقام عال فى الجنة (لاخوف عليهم ولاهم يحزنون)، وهكذا كانت الأخوة مستمرة أكثر من الحياة لتدوم وفاءا مستمرا بعد وفاته بقصائد وحب وحنين فى رثاه أيضا منها

لــولا يـــذم الركب عندك موقـــفي حيــيت قــبـرك يا أبا إسحـق

كيــف إشتياقــك مـذ نــأيتَ الى أخ ٍ قـلق الضميـر إليك بالأشواق

أمضي وتعــطـفـني إليـك نـــوازع بتــنـفس ٍ كتــنـفس العشــــاق

وأذود عن عيني الدموع ولو خلت لـجرت عليــك بوابل غيـداق

وأخرى يقول فيها

وقــفـنا فأرخصنا الدموع وربمــا تكون على سوم الغرام غواليــا

ألا أيهــا القبــر الذي ضـم لحــده قضيبا على هام النوائب ماضيا

هـل إبنُ هــلال منذ أودى كعهدنا هلالا على ضوء المطالع باقيــا

رثيتك كي أسلوك فازددت لوعة لأن المراثي لا تسد المرازيـــا

توهم البعض أن الشريف المرتضى (أخو الشريف الرضى) قد انتقص الصابى وذمه، وهو غير صحيح فقد كانت بينهما أنس ومصاحبة ومودة وقد رثاه بعد وفاته فى قصيدة طويلة موجودة فى ديوانه وفيها

ما كــان يـومــك يا أبا إسحــق إلا وداعي للمنــــى وفراقــــــي

وأشدَ ما كان الفراق على الفتى ما كان موصولا بغير تلاقــــــي

لقد أتاني من مصابــــك طارق لكنــــه ما كان كالـطـــراق

من ذا نضا عنا شعار جمالنـــا ومن رمى هلال سماءنا بمحاق

من ذا لوانا والصدى علق بنــا عـــن ورد ذاك المنهل الرقــراق

لولا حِمــامك ما اهتدى هم الى قلبــــــي ولا نار الى حــــــراقي

ولو إفتديت فداك بادرة الـردى الأقوام بالمـــهجات والأحـــداق

تهمى دما من كفه سحب الوغى من غـــيـر إرعـــاد ولا إبـــراق

إن لم تكن من عنصري فلأنت بالآداب من أهـــلي وبالأخــلاق

ومودة بين الرجال تضمـــــهم وتلفـــهم خيـــرٌ من الأعــــراق

ما أحوج العراق اليوم إلى ثقافة التسامح والتعايش والمحبة لبناء العراق من جميع أبنائه بعيدا عن التعصب والأحقاد والطائفية التى أودت بحياة الكثير من الصابئة العراقيين وطردهم وتهجيرهم، وغيرهم.