في نهاية القسم الأول من هذا المقال، وصلت الى تهديد المجلس العسكري بأنه سيظطر الى إصدار إعلان دستوري مكمل، للإعلان السابق الذي أصدره في الثلاثين من شهر مارس لعام 2011، إذا لم تتفق الأحزاب على معايير تأسيس اللجنة التأسيسية للدستور، لكن الأحزاب اتفقت على ذلك في اليوم السابع من هذا الشهر، بما فيها حزب الحرية والعدالة، وتم تشكيل اللجنة في البرلمان، بما يضمن أيضا أغلبية للإسلاميين (62%) وكان من بين أعضائها شيخان سلفيان متشددان، هما محمد حسان، وياسر برهامي، والمفاجأة إنها ضمّت أيضاً وزير الخارجية الأسبق في عهد مبارك، الدكتور عمرو موسى، على الرغم من إن قانون العزل السياسي الذي فصّله الإخوان المسلمين ينطبق عليه معنوياً وليس نصاً، فقد اضطروا الى استثناء الوزراء من هذا القانون، لكون المشير حسين طنطاوي، كان يشغل منصب وزير الدفاع. وقد آل مصير هذه اللجنة الى الطعن أمام القضاء، كسابقتها التي شكلت قبل شهرين، كما تم الطعن بقانون معايير اللجنة التأسيسية. في هذه الأثناء كان الترقب على أشدّه لما ستتخذه المحكمة الدستورية العليا بشأن قانون العزل السياسي، وما إذا ستسفر المداولات القضائية عن إبعاد الفريق أحمد شفيق عن السباق الرئاسي، وهو ما كان يظنه الإخوان شبه أكيد، ما جعلهم يتعاملون مع التحديات بلامبالاة واستعلاء. وقد جاءت النتائج بما لم يتوقعوه، فكانت الصدمة التي فتحت الأبواب أمام صراع الإرادات ذات التعبيرات المختلفة، قانونية وسياسية، وأخرى تتحصن بالشرعية الثورية التي لم يتفق أصحابها على تعريف محدد لها.
نحن الآن أمام قرار المحكمة الدستورية العليا الذي صدر يوم الرابع عشر من يونيو، وقضى بعدم دستورية قانون العزل السياسي، وبعض مواد القانون الذي نظم الإنتخابات، بما يترتب عليه بطلان عضوية ثلث أعضاء مجلس الشعب، الذين ترشحوا على القوائم الفردية، وبالتالي حل مجلس الشعب، باعتباره جاء وفق قانون مطعون به نتج عنه زيادة عدد المرشحين الحزبيين على حساب المستقلين في الترشيحات الفردية، بمعنى إن القرار لا يستهدف صحة عضوية النواب، التي تفصل فيها محكمة النقض، حسب المادة 40 من الإعلان الدستوري لعام 2011، المعمول به حالياً، وإنما القانون الإنتخابي الذي جاء بهم. وبصرف النظر عن الجدل القانوني والفقهي بين المختصين، نلاحظ إن المطروح الآن يتجاوز مسألة التداخل القضائي، واختلاف التفسيرات، الى مصير دولة وشعب يقفان على مقربة من الهاوية، أي المواجهة بين الإخوان والجيش، التي يمكن أن تجرف معها أطراف ساهمت في الثورة، وتشتبه بأن الدكتور محمد مرسي يمكن أن يصلح كمرشح لها، وأخرى ترى النجاة بعدم التصويت في الإنتخابات الرئاسية، ما يؤدي في كلتا الحالتين الى تهديد حقيقي لأسس الدولة المدنية، إذا ما فاز مرشح الإخوان، الذي يعاضده السلفيون، ذلك إن مشروعهم الحقيقي هو إحياء فكرة الخلافة العثمانية، التي كان لمفاعيلها أكبر الأثر في تخلف البلدان العربية. وكان مرشد جماعة الإخوان، محمد بديع قد صرّح في نهاية العام الماضي، بأن الخلافة من الاهداف المرحلية التي حددها مؤسس الجماعة، حسن البنا، لتحقيق الغاية العظمى، وإن تحقيق هذه الغاية بات قريباً مع ثورات الربيع العربي. وقد عبّر برلمانيو الإخوان عن تباشير هذه الخلافة الخاصة بهم، وهي بالمناسبة أكثر تخلفاً مما كانت عليه عهود الخلافتين الأموية والعباسية وتوابعهما من الإمارات الكثيرة التي حكمت عالمنا العربي والإسلامي، من هذه التباشير، مشاريع قوانين طرحت كأولويات، مثل إلغاء قانون التحرش، وتخفيض سن الزواج للفتيات وتشريع ختان البنات، والتشجيع عليه أثناء الحملات الإنتخابية، والتهديد بإلغاء القوانين التي أعترفت للنساء ببعض الحقوق، وغير ذلك.
الإخوان مازالوا يتداولون، ومرشحهم للرئاسة أكد احترامه لقرار المحكمة الدستورية، بينما صرّحت قيادات منهم بأن القرار هو انقلاب. إذاً نحن أمام أطروحات متباينة، كل منها تستند الى مبدأ الشرعية، وهذا يقودنا الى البدايات التي تكشف لنا ما تعنيه الشرعية فعلاً.
إن العملية السياسية التي حملت الإخوان والسلفيين، وغيرهم الى البرلمان، تقوم على أساس الإعلانات التي أصدرها المجلس العسكري، بعد تنحي الرئيس السابق حسني مبارك، والتي بموجبها حكم البلاد، وكان أولها في الثالث عشر من فبراير العام 2011، وقد تعهد المجلس بموجبه بتسليم السلطة لحكومة مدنية، بعد الإنتخابات التشريعية، والرئاسية، وعلّق دستور العام 71. الإعلان الثاني صدر في الثلاثين من مارس 2011، وكان بمثابة دستور مؤقت حوى على ثلاثة وستين مادة، ووفق أحكامه، وما جرى عليها من تعديلات، جرت الإنتخابات التشريعية، ويجري الإقتراع الرئاسي في هذه الأيام. ومن مواده التي لم تحظ بالقبول العام، المادة 28 التي تمنح quot; لجنة الإنتخابات الرئاسيةquot; سلطة الإشراف على الإنتخابات وتجعل قراراتها نافذة بذاتها، وغير قابلة للطعن بأي طريق، ومن أي جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتتكون هذه اللجنة من رئيس المحكمة الدستورية وقضاة رفيعين.
أخلص مما تقدم الى إن الإنتخابات قامت على أساس هذا الإعلان الذي عبّر عن انقلاب أو إجراء عسكري، ذي صبغة قانونية، في ظرف لم يتمكن الثوار العزّل من الحسم والإمساك بزمام السلطة، وافتقدوا قيادة موحدة. لقد رضي الإخوان وغيرهم من الأحزاب والتجمعات، بخوض الإنتخابات، في ظل لجنة لها صلاحيات واسعة لاترد، وهي الجهة التي اعترضت على أدائهم في البرلمان، وأحالت قانون العزل السياسي الى المحكمة الدستورية، وعلى هذا فلا يجوز لأي جهة، أن تطعن بالإحالة بحجة عدم وجود قضية. وكانت هيئة المفوضين، الإستشارية قد رفعت الى المحكمة الدستورية، تقريرها، مشيرة الى أن إحالة قانون العزل الى الدستورية غير صحيحة، لأن اللجنة الرئاسية ليست جهة اختصاص، لكن هذا الرأي لا يصمد أمام الطعن بمواد القانون الذي نظم الإنتخابات، والذي أيدته الهيئة نفسها لأن الحكم فيه انتهى الى تجريد مجلس الشعب من مشروعيته، كونه قام على أساس مواد باطلة، وبالتالي فإنه لم يكن أهلاً لإصدار قانون العزل. وفي هذا السياق أيدت الهيئة بتقريرها، ما ذهبت اليه المحكمة الدستورية بشأن عدم دستورية بعض مواد قانون مجلس الشعب، في الدعوى التي أحيلت اليها من المحكمة الإدارية العليا، وقالت عن تلك المواد إنها ضيّعت تكافؤ الفرص بين المستقلين والحزبيين. ويذكر إن عدداً كبيراً من مرشحي الإخوان، فازوا في الإنتخابات كمرشحين أفراد.
إن من يتحدثون عن الشرعية الثورية، وتعطيل القضاء العادي لمصلحة قضاء استثنائي، يتجاهلون حقيقة كون الثورة قد تحولت من كونها نبض الشارع، وصوت المغيبين، الطامحين الي العدالة الإجتماعية، الى إرث غير مشروع للإخوان والسلفيين، من جهة، وللمجلس العسكري، من جهة أخرى، وإن كان هذا الثاني يحتفظ أمام الشعب بفضل الحماية، ودرء الإنفلات، الذي تجلى في إحدى صوره الصادمة، بهجوم جموع السلفيين ضد اللواءعماد شحاتة الذي عيّن كمحافظ لمدينة قنا الصعيدية، وكان هؤلاء قد قطعوا الطرق ومنعوا أعضاءً من المجلس العسكري من الوصول الى موقع الحدث، ولم يحتكموا إلا لشيوخهم.
الفكرة التي أريد توضيحها، أقدمها بسؤال: هل نتكلم عن دستور وقوانين واختصاصات مقدسة لمحاكم عليا، أم نرفع شعارات من قبيل الشرعية الثورية التي يمكن أن تجمع بين كثير من المتناقضات، بين رغبة الإخوان والسلفيين، المتجذّرة في السيطرة على أسلوب حياة الناس باسم الدين، ومصادرة قناعاتهم وعقائدهم، وثقافاتهم المتعددة المناهل، وبين جموع الثوار الذين انتفضوا من أجل الحرية والعدالة، كمبادئ حقيقية، وليس كإسم اتخذته جماعة الإخوان للإلتفاف على قانون ينفي الصبغة الدينية عن الأحزاب المرخصة؟
وفي رأيي أن الحديث عن الشرعية في ظرف مصر الحالي، ومن أي طرف كان، يشوبه النقص، لأن كل ما تم بعد النزول عند رغبة الشعب، وتنحي مبارك، لم يكن إلا بفضل قيادة الجيش، بصرف النظر عن كونها جزءاً من النظام السابق بشكل عام، فدور القيادات العسكرية دائما هو حماية النظام السياسي الحاكم، أيّاً كان، إلا في حالات استثنائية تتمثل بالإنقلابات العسكرية التي تلبس لبوس الثورة، وتنقلب غلى مبادئها، كما حصل بعد 23 يوليو في العام 1953.
إن الجماهير التي رفدت انتفاضة الخامس والعشرين من يناير، ورابطت في الميدان، في وادٍ وفقهاء القانون في وادٍ آخر وهم ليسوا معنيين بلقمة العيش والكرامة والنفَس الحر، بقدر اهتمامهم بتثبيت حججهم، أمّا السياسيين، على اختلاف توجهاتهم، فهم منشغلون بتعبيد الطرق الموصلة الى السلطة، ولا استثناء في هذا، لمعظم من قادوا الإنتفاضة، أو دبّجوا شعاراتها، وإلا لكانوا توحدوا خلف مرشح واحد، كان باستطاعته أن يحول دون وصول الإخوان وأشياعهم، أو من ارتبطوا بالعهد السابق، سواء الى مجلس الشعب، أونهائيات الرئاسة.
إن التطورات التي ستعقب قرار المحكمة الدستورية، تحتم تنفيذ ما هدد به المجلس العسكري، أي إصدار إعلان دستوري مكمّل، يتضمن تعديل المادة 30 من إعلان مارس التي تقضي بأن يؤدي رئيس الجمهورية القسَم أمام مجلس الشعب، وكذلك المادة 60 التي تكلف مجلس الشعب بتشكيل اللجنة التأسيسية لكتابة الدستور، وبحكم تعطيل هذا المجلس بقرار المحكمة، فإن الإعلان المتوقع قريباً سيحدد المعايير الدستورية لانتخاب التأسيسية، ويغيّر جهة القسَم - أغلب الظن- الى المحكمة الدستورية، كما ينتظر أن يحدد صلاحيات رئيس الجمهورية، المنصوص عليها في إعلان مارس، بشكل أكثر تفصيلاً.
النتيجة من كل ما رسمته الأحداث والسياسات، إن مصر يحكمها مجلس عسكري، وتتأهب للإنقضاض على ما تبقى من أمنها، أحزاب الإسلام السياسي، وبعضها ممول من خارج الحدود، بشهادة الشيخ يوسف القرضاوي الذي هاجم مفتي البلاد، الدكتور على جمعة، ووصفه بأنه quot; نصير أعداء الثورة، وقد اختلط عليه الحق والباطل quot; ودعا رجال الأزهر الى نبذ الحياد والاصطفاف خلف مرشح الإخوان، والدعوة في المساجد لنصرته، باعتبار إن الحياد حرام شرعاً، على حد زعمه. وكان رد المفتي شافياً، بأن قال إن الأمة الإسلامية ابتلت بعلماء من أمثال القرضاوي، تسيّرهم رغبة جامحة في تقمص دور البطولة، على حساب القواعد الشرعية، ونظام المجتمع واستقراره، وأضاف بأن ربط الدين بالسياسة بمعناها الحزبي، هو مفسدة للدين وإهانة وظلم له. ولا أنسى هنا بأن الردود العنيفة المتوقعة من الإخوان والسلفيين، إذا ما فاز المرشح أحمد شفيق، ستكون فرصة لما يسمى بالبلطجية وهم متعددوا الولاءات، لمن يدفع أكثر، بأن ينشروا الإرهاب ويزيدوا من إحباط الشارع، ولكن مما يهدئ المخاوف في كل الحالات صدور قانون الضبطية القضائية، الذي يمنح الشرطة العسكرية والمخابرات سلطات واسعة للتصدي الى أي محاولة للإخلال بالأمن.
هكذا إذاً وصلت الأمور الى الحد الذي نعوًل فيه على ما يشبه قانون الطوارئ، بسبب جشع الإخوان والسلفيين للغلَبة، وحيرة الثوار وتنافسهم، وتخبط النخب في نقاشاتها الترَفيّة. آمل في الختام أن يصدق عضو الهيئة العليا لحزب النور السلفي، نادربكار، في استشهاده بالآية الكريمة التي تقول: quot; إستعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها لمن يشاء من عباده والعاقبة للمتقّينquot; وأن لايتنادى السلفيون لممارسة العنف إذا ما كتب للفريق أحمد شفيق أن يصل للرئاسة، لأن الله هو الذي أذِن بذلك، وأورثه المنصب، وما عليهم إلا أن يتّقوا الله في خلقه.

[email protected]