مع كتابة هذه الأسطر في شهر رمضان من عام 1433 هـ نعاصر ربيع الثورات العربية وحريق كبير يلتهم سوريا. وكأننا لسنا في رمضان بعيدا عن جو التعبد والتهجد والصلوات والأسحار. حقيقة أتساءل عن المتقاتلين في سوريا هل يصومون؟ وكيف يشتد القتال في رمضان فلا يأخذ النظام والمعارضة فترة التقاط أنفاس ومراجعة؟ أما قطعان الشبيحة فيأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم.
جنون يلتهم المنطقة، وحرب تهدد المنطقة، ودماء تسيل شلالات، وأرواح شباب تحتشد وتتسابق إلى الملأ الأعلى في شهر رمضان. هل سندخل حربا إقليمية بعد أن دخلناها عالمية بالوكالة.
الويل والويح لك أيها النظام الفاسد الدموي. حقا أنت سرطان تحتاج إلى عملية جدا نازفة للاستئصال.
كذابون يروجون للباطل، وتضليل الرأي العام، وحرب إعلامية يقودها دهاة من عالم الانفوميديا. وجو من الجنون المطبق، وحوار ينتهي بالسباب ومد اليد واللسان بالسوء.
مع كل هذا فيجب الوقوف قليلا، والتقاط الأنفاس في جو رمضان، ومحاسبة النفس ومراجعة الخاطر إلى أين وصلت الأمور؟
بريطانيا تستعد للأولمبياد، ولكن حلب تذكر بلحظات بنغازي الأخيرة قبل تدخل الناتو وتستعد لمذبحة تذكر بمذبحة سيبرنيتشكا من البوسنة؛ فهل من حديث روحي وعقلاني في رمضان في هذا الجو الملتهب؟
في قناعتي أن الأزمة السورية قد تكون في نهايتها، مثل مخاض الحامل بدم غزير قد يخرج معه الجنين سليما، وقد يموت الاثنان!!
ولكن الشعوب لا تموت.
أكتب هذه الأسطر بروحية مختلفة هذه المرة، وأتذكر ذكريات قديمة من روحانية رمضان فعسى أن تشفع هذه الكلمات لالتقاط الأنفاس وشيء من الروحانية في جو العاصفة التي نحن بحاجة لها.
يصعب علينا في العادة أن نتصور ضغط الثقافة ولو سألت أي انسان هل أنت مقتنع عقلياً ووصلت الى ما تعتقد بتمحيص ونقد شديدين أم أنك تفعل ما تفعل بسبب التقليد وإكراهات المجتمع ؟؟؟ لاعتبر نفسه ثالث ثلاثة بعد آينشتاين واسحق نيوتن في الفهم ، وأكد بما لا يدع مجالاً للريب أنه وصل الى العقيدة الصحيحة بتمحيص تعجز عنه ميكانيكا الكم والنسبية معاً ؟!
أبغض الأشياء على النفس الانتقاد ولا تسكر النفس بخمر كالثناء ، وهناك نوع من التساؤلات تمثل الأرض الحرام فلا يلج معاقلها أحد وكانت حجرا محجورا .
نحن ولدنا في بيئة إسلامية رأينا آباءنا يصومون فنحن مثلهم نصلي ونصوم ، ولكن السؤال المزلزل ماذا لو ولد أحدنا في التيبت أو ألمانيا أو اليابان أو حتى الناصرية في جنوب العراق ؟ يسهل أن نتصور أن أحدنا لو ولد في إيران سيكون شيعياً ، ولو ولد في تركيا سيكون على الأرجح سنياً وعلى المذهب الحنفي ، ولكن هل يمكن أن نتصور أن أحدنا لو ولد في (كيرلا) في الهند لكان هندوسياً يقدس البقرة أو الجرذان أومن السيخ لا يستغني عن عمامته ولا يقص شعره الى يوم القيامة ، ولو ولد في اليابان لكان ربما بوذياً من جماعة ( الزن ) ، ولو ولد في ميونيخ لربما كان قساً كاثوليكياً ؟ ولو ولد في التيبت لكان حليق الرأس يلبس الأصفر من جماعة (الدلاي لاما) ولو ولد في مونتريال في الحي اليهودي لرأى العالم كله يهز برأسه وجسمه وهو يقرأ العهد القديم ، ولو ولد في شمال ايرلندا أن يرسي مصيره بين كاثوليكي وبروتستانتي في حرب أهلية ؛ فهناك أقدار تتحكم فينا تدفعنا أن نفكر بعمق أمام هذا السؤال المزلزل فنكون أكثر تسامحاً مع الآخرين .
الصيام لا يخص المسلمين فقد كتب على الذين من قبلنا ، ولم يكن للمسيح عليه السلام أن يدخل التجربة قبل صيام أربعين يوماً عندما سأله الشيطان أن يقلب له نظام الطبيعة ؛ فيحول الحجارة الى خبز ؛ فخرجت الحكمة من ينابيع قلبه على لسانه : مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، والصيام ثانياً قد يكون عن الكلام عندما نذرت مريم أن تصوم للرحمن فلم تكلم أنسيا وهو أصعب بما لا يقارن من الصوم عن الطعام ، وتم امتحان زكريا في اختبار قاسي أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ، والصيام ثالثاً ليس تعذيباً للنفس بل إعلاناً لولادة ( الإرادة ) ضد الغريزة فلم نرى قطاً صام أو عشباً انتحر وهو ما يفعله الإنسان فقد ينتحر في إعلان استقالة من الحياة ، أو يصوم فيعلن حالة الجوع مختاراً متضامناً مع الجياع في حديث مناقض لمواضعات الغريزة .
تخضع الآلة لمبدأ القصور الذاتي ، وتمسك الغريزة بتلابيب الحشرة ، ويعلن الإنسان بالصيام الوعي والإرادة والحرية في مركب ثلاثي متفرد .
تتفاهم النحلة مع رفيقاتها بالرقص فلم تعلن نحلة يوماً أنها مثقفة ، ويركض فأر الحقل يسعى لطعامه لا يعرف إلا نهم الطعام فلم يدل بتصريح أنه مكتئب أو متشاءم ، ويتفرد الإنسان بإعلان الإمساك بمكبح الغرائز فلا يستجيب لندائها ، والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام .
الحرية ليست الإباحية بالاستسلام المطلق بدون قيد أو شرط أمام اجتياح فرق الغريزة ، والحرية الفعلية هي عتق الإرادة بالتخلص من أسار الضرورات ، والهبوط لا يحتاج لطاقة ولكن الصعود يحتاج الى كل الطاقة، والطائرة عندما تنزل تستهلك أقل قدر من الوقود ، وهي عند صعودها تستهلك أكبر قدر منه ، والحضارة عندما تقلع فإنها تصعد على أجنحة الروح أمام لجم قيود الغرائز لذا كانت الحضارات دوماً ذات بعد أخلاقي ، وعندما تتحرر الغرائز ويبدأ حديث الروح بالانطفاء والذبول تبدأ رحلة السقوط بالانكباب على الملذات في مؤشر أخلاقي على تردي الحضارة سنة الله في خلقه ، ومن يملك نفسه يملك العالم ، والغنى ليس ما نمتلك بل بما نستغني عنه فهذه قواعد فلسفية هامة ، وكان سقراط عندما يمر في السوق فيرى الناس يتدافعون تحت حمى الاستهلاك يصيح متعجباً : يا الهي ما أكثر الأشياء التي لست في حاجة إليها ؟!..
عاصر الفلكي المشهور ( سيمون لابلاس ) صاحب كتاب ( الأجرام السماوية ) نابليون وكان أول من أشار الى فكرة الثقوب السوداء في الكون على ما رواه الفيزيائي الكوني (ستيفن هوكينج) صاحب الكتاب الشهير ( قصة قصيرة للزمن ) . سأله نابليون يوماً عن النظام السماوي أين مكان الله فيه ؟ كان جوابه إن النظام الكوني يشتغل كساعة عملاقة فلا يحتاج لإله يقوم عليه ؟
هذا الضرب من الحوار يروي مأساة العلم والدين . الكون ساعة عملاقة والقوانين تمشي بانتظام أبدي ، والمادة خالدة ، والكون وجد منذ أبد الآبدين وسيبقى هكذا الى آخر الدهر .
تقدم (الكتبة) الى يسوع المسيح ومعهم زانية يدفعونها أمامهم وهو يشرح أفكاره لتلاميذ متحلقين حوله بخطوط يخطها على الأرض صرخوا بأعلى صوتهم : يا معلم هذه زانية فتقدم فارجمها ؟ كانوا خبثاء يريدون إيقاعه في أمرين أحلاهما مر ؟ فإن قال بالرجم سقط في مصيدة مخالفة القوانين الرومانية بالتحريض على القتل ؟ وإن امتنع خالف الشريعة الموسوية فكان هرطيقاً ؟! تابع يسوع يخط على الأرض ثم التفت إليهم ببراءة ونطق بجملة على الطريقة الإبراهيمية بُهِت من سمعها فلم يحر جوابا : من كان منكم بلا خطيئة فليتقدم فليرمها بحجر ؟! .. فالتفت الى الفتاة التي كان قدرها أن تعيش في مجتمع بلا ضمانات ، لا تجد طريقة للعيش إلا بالتكسب بجسمها : اذهبي فلا تخطئي ثانية ...
إن القرآن يلتقي مع الإنجيل فالقرآن اعتبر أن من يكره الفتيات على البغاء ذنبها مغفور فمع الإكراه يسقط العمل فلا يبقى الإيمان إيماناً ولا الكفر كفرا ولا الزنا زنا ، ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم .
ينقل عن فيلسوف التنوير ليسنغ قوله : لو أخذ الله الحقيقة المطلقة بيمناه والبحث عن الحقيقة بيده اليسرى ومعها الخطأ لزام لي ثم قال لي اختر ؟ إذاً لجثوت على ركبتي ذليلاً ضارعاً وقلت له يا رب بل أعطني ما في يسراك لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك .
أتمنى أن يكون لي عيون اخترق بها الغيب؟ هل سنحتفل في رمضان القادم وسوريا تحتفل بالحرية؟ هل سيكون العيد القادم الأضحى يوم التضحية بالقربان والكف عن التضحية بالإنسان؟ هل سينتهي عرس الدم والتضحية بالقرابين البشرية ودخول عصر النور بعد أن عاشت سوريا في الظلمات نصف قرن؟
دعنا نتفاءل بالأفضل ونستعد للأسوأ.
ينقل عن نيتشه قوله أن التشاؤم علامة انحطاط والتفاؤل سذاجة وسطحية والأشياء تولد من رحم المعاناة. وسوريا تتطهر الآن بالألم والتضحية والدم