في القسم الأول من مقالنا المعنون quot;أوضاع عراق اليوم ليست كأوضاع 14 تموزquot; أبدينا قلقا وخشية من مناورات متصاعدة لتطويق حكومة إقليم كردستان، تمهيدا لصدام مسلح جديد. وقد ورد التالي: quot; وكل ما نخشاه أن يكون مجمل هذه التحركات [ المالكية] مقدمة لصدام مسلح سيكون كارثة للجميع وللعراق كله، ما لم يجر تدارك الأمور بحصافة ومرونة من كل الأطراف.quot; ويبدو أن الهواجس والقلق تجد مبررات جديدة في الخطوات الجديدة لحكومة المالكي. فأولا، بينما تواصل وزارة التعليم العالي فصل العشرات من أساتذة الجامعات بحجة كونهم كانوا بعثيين، فإن الحكومة تعيد للجيش عشرات من الضباط البعثيين في محافظتي نبنوي وكركوك بالذات وحصرا. والحدث الجديد الخطير الثاني إرسال لواءين من الجيش نحو منطقة في الشمال، وهي عند معبر فيشخابور الحدودي مع سوريا، والذي تتمركز عنده القوات الكردية منذ 1991-1992، فضلا عن أن هناك اتفاقا رسميا على أن تظل المنطقة تحت حماية هذه القوات. وقد شرعت القوات الحكومية بحفر الخنادق باتجاه القوات الكردية لا باتجاه الحدود السورية التي تدعي أنها جاءت لمنع عبور إرهابيين منها للعراق من سوريا. وكان قيادي في حزب الدعوة قد أكد أن الحكومة السورية سلمت السفارة العراقية قائمة بأسماء عناصر جماعات مسلحة من جنسيات سورية وعربية يبغون دخول العراق هربا من الجيش السوري النظامي! تصورواا! المصدر هو نظام الأسد، وهو نفسه الذي يسلم أسماء للعراق عمن يعتبرهم إرهابيين، وكأن هذا النظام ليس هو من سهل دخول الآلاف من الإرهابيين للعراق، وليس هو- مع حليفه الإيراني- من كانوا متعاونين مع القاعدة لتدمير العراق. ويا ترى أية أسماء يسلهما اليوم للمالكي: هل حقا هم إرهابيون [ هذا لو افترضنا أن الرواية العراقية صادقة]؟ أم لعلهم من الجيش الحر، أو على الأكثر من المواطنين العزل الهاربين من الجحيم السوري؟!! حجة متهافتة يفندها حفر الخنادق باتجاه الأكراد وليس باتجاه المعابر السورية الحدودية. وللعلم فإن المنطقة المذكورة كانت دوما آمنة فلا مبرر لإرسال قوات المالكي إليها، ولكن القضية أن حكومة كردستان متهمة بدعم المعارضة الكردية السورية وتسليحها برغم تكذيب الحكومة المذكورة. فهل لا يحق القول بأن تحرك قوات المالكي تستهدف، من جهة، تصفية الحساب مع أكراد العراق، ودعم النظام السوري من جهة أخرى؟؟
لسنا هنا في أن نعيد مرة أخرى ونكرر دور الأطراف الكردستانية نفسها في تدهور أوضاع العراق وفي أزمته الحالية. فقد كتبنا في ذلك أكثر من مرة ودعوناهم للمرونة وعدم تصعيد المطالب والخطاب، والمرونة في موضوع كركوك، وعدم وضع البيض كله في سلة الأحزاب الإسلامية الشيعية. ولكننا نخطئ، ولا نكون منصفين، لو اتفقنا مع ما يكتبه بعض الكتاب العراقيين، [أحدهم في الشرق الأوسط]، محاولين تحميل البرزاني وحكومته وحدهما كل مسؤولية الأزمة، ومهاجمين كل خصوم ومنافسي المالكي، مع الصمت الذهبي عن دوره الحاسم في الأزمة بوصفه هو حاكم العراق، وصاحب المناصب والوزارات وقيادة القوات المسلحة. وهو - وعدا عن دوره الرئيسي في أزمة اليوم- قد فشل في حماية المواطنين امنيا، وفي معالجة موضوع الخدمات ولاسيما الكهرباء[ خصوصا في حر العراق الحارق]، مثلما فشل في محاسبة رؤوس الفساد، وفي وقف التدخل الإيراني واستهتار سليماني. وحين يهاجم غيره بتهمة خرق الدستور، فهو أول المنتهكين، سواء بمعارضته لوضع نظام لمجلس الوزراء نص عليه الدستور، أو في التعامل الانتقائي مع المحافظات التي تطالب من حين لحين بتحولها إلى إقليم، أو في ضرب حرية التظاهر السلمي [ أخرها في البصرة والديوانية]، والتضييق على الحريات الصحفية، وتحول العراق خلال سنوات ولايتيه ليصبح في مقدمة دول الفساد وفي صف الدول العشر الأولى- من مجموع 177 دولة في العالم- الأكثر فشلا في العالم، كالصومال وتشاد والسودان وزيمبابوي والكونغو وأفريقيا الوسطى وغينيا وباكستان، وذلك وفق أبجاث ودراسات لأكاديميين مختصين أميركيين نشرت بعض المجلات الأميركية نتائج جهودهم منذ أيام. وهذا فضلا عن الأسلمة التدريجية للمجتمع والتعليم والحياة الثقافية.
إن أي فشل مروع، كسلسلة وقائع الفشل الفعلي في الميادين التي تمس أمن المواطن ووضعه المعيشي والخدمات والفساد، كان يفرض على أية حكومة تحترم نفسها ومواطنيها أن تستقيل، أو على الأقل أن يتطوع رئيسها لتقديم كشف حساب وتوضيحات أمام البرلمان والرأي العام، وأن يقال أكثر الوزراء فشلا كالسيد الشهرستاني مثلا. ولكننا في عراق لم تعرف النخب السياسية فيه ما يعرف بالاعتراف بالخطأ والمحاسبة الديمقراطية الشفافة.
إن التوتر القائم بين حكومة المالكي وأربيل ينذر بشر مستطير ما لم يسارع العقلاء لوقف التصعيد المستمر. ويجب القول إن كلمة السيد مسعود البرزاني الموجهة للعراقيين قبل أيام كانت هادئة ومقنعة، بالعكس من لهجة التوتر لزعماء حزب الدعوة ومستشاري المالكي، وهي تفتح طريقا للمرونة والحوار والعقلانية، وتتجنب التصعيد. ومما قاله: quot; ليس هناك أي إشكال شخصي مع المالكي ولا مع أية جهة أخرى. لقد كان المالكي، ولعدة سنوات، يقيم في كردستان كصديق، وكان كذلك صديقا مقربا لي، وكنا على تواصل دائم. وكنت دائما أحاول أن أعالج أي إشكالات عبر الحوار. لكن لم يلتزم بأي عهد، وقد تعامل بتفرد مع القضايا ولم يزل كذلك.quot; كما أشار لتنصل المالكي من اتفاقية أربيل، وتجريده لمبدأ quot; الشراكةquot; من محتواها. وطالب أيضا بلجنة محايدة متخصصة تفحص عقود النفط وquot;تشخص أي تقصير أو تجاوز دستوريquot;، وكيف يتهرب المالكي من اللجنة المحايدة، مثلما يتهرب من تنفيذ المادة 140 من الدستور، ومن النظر في قانون النفط والغاز. النفط والغاز ثروتان لكل العراقيين وإذا كان هناك التباس أو خطأ أو تجاوز في بعض عقود كردستان النفطية، فإن لجنة محايدة كفيلة بتشخيص ذلك لكي يصحح الخطأ وتحدد المسؤولية. ويجب أن نعلم بأن أي خطا ينزلق إليه الأخ مسعود برزاني أو أي طرف كردي آخر سيكون عكازة وذريعة جديدة بيد المالكي. وإن معالجة الممارسات والظواهر السلبية في الإقليم، ومكافحة العشائرية والمحسوبية والفساد والعدوان على المرأة والأقليات الدينية في الإقليم، هي واجب قومي كردي وعراقي، وضرورة وشرط ليكون الإقليم نموذجا إيجابيا بالمقارنة مع أداء المالكي في بقية أنحاء العراق. ونكرر أيضا أن قيام حكومة اتحادية علمانية وديمقراطية هو الذي يكون ضمانا لمكتسبات الشعب الكردستاني، وما يعنيه من واجب الأطراف الكردية في تعزيز العلاقات مع القوى العلمانية والديمقراطية على نطاق العراق. ومما تجب الإشارة إليه مما قد يجهله البعض عما نصت عليه مواد الدستور الدائم حول الحصص من الثروات الوطنية، ودور quot;الأقاليمquot; والمحافظات في حماية أمهنا وحدودها بما في ذلك حرس للحدود. بل إن الدستور الدائم ينص على حق إنشاء كل إقليم لمكاتب وبعثات في الخارج ملحقة بالسفارات، أي ليس فقط لإقليم كردستان، بل لكل إقليم جديد يقام. وهذا في نظرنا يتجاوز الفيدرالية إلى درجة من الكونفيدرالية. ولم نسمع أن أية دولة فيدرالية ديمقراطية في العالم تطبق مثل هذا. ولكن هذا هو دستورنا الذي وقعت عليه كل الأطراف السياسية، والذي تتداخل فيه الصلاحيات ويضرب كل بند منه بندا آخر مما يثير المشاكل والالتباسات. كما نضيف أيضا أن الدستورين الانتقالي والدائم ينصان على الاعتراف بإقليم كردستان بكل تشكيلاته ومؤسساته وتشريعاته التي قامت منذ 1992، بما في ذلك قوات البشمركة، والنص على واجب الحكومة الاتحادية في تسليحها كجزء من القوات الرسمية. وهو ما جرى فعلا سابقا، وما تمتنع عنه حكومة المالكي اليوم، مثلما تقوم بمنع وصول المحروقات؛ وغير ذلك من إجراءات غير مبررة لا يمكن تفسيرها بغير محاولات إحراج وبغير استفزازات، وأيضا بغير حركات لترضية نظام إيران وبشار الأسد، اللذين يعتبران البرزاني قد صار مع تركيا والغرب ضد النظام السوري ويعمل لإسقاطه. وأود التذكر بمقالي في 30 ديسمبر 2011 quot; بين تصعيدين متزامنين محفوفين بكل الأخطارquot;، تصعيد المالكي فور الخروج العسكري الأميركي، والتصعيد الإيراني. وكان المقال بمناسبة ما أعلنه المالكي من فتح ملفات خطيرة مودعة لديه بدأها بقضية الهاشمي. ومع موضوع سحب الثقة، تصاعد التصعيد ضد هذا السياسي المنتقد والمنافس أو ذاك، ثم تحول التكتيك مؤخرا لمحاولة عزل حكومة أربيل وسط حملة إعلامية تحريضية هائجة وصاخبة، وصولا لإرسال القوات والتخندق. فهل نأمل أن ينتصر العقل والمسؤولية الوطنية، فلا يقع المحذور ولا يشتعل العراق مرة أخرى، وأن يلعب البرلمان هذه المرة دورا يحسب له؟؟ وماذا لو تقابل كل من السيد مسعود والسيد المالكي وجها لوجه أمام البرلمان أو في مواجهة تلفزيونية ليعرض كل منهما وجهات نظره ويفتح ملفاته أمام الملأ؟؟