لن تهدأ المنطقه قريبا.. ولن يلوح الإستقرار في رحابها قبل عقد كامل علي الأقل.. ذلك أن ماجري فيها خلال العامين الماضيين، ولم يكتمل بعد، مُحَمل ب (طاقة قلاقل) لايمكن توقع نفاذها في وقت منظور. وإذا ماأضفنا تلك الطاقة إلي نتائج عملية (غزوالعراق) في ٢٠٠٣، ثم احتمالات تأجيج الشرق الاوسط كله بصراع حول (الخيار النووي العسكري الايراني)، فان هذا يعني أن (المشرق العربي)-تحديدا قبل غيره-سوف يظل مهدداً بمزيد من الإضطراب لفتره ستكون طويله بالتأكيد.
بغض النظر عن دعايات نشر الديموقراطية، ذات الشعارات البراقه التي تخفي خلفها أهدافاً أُخري بينما تداعب مخيلات الشعوب بأحلام لاتنطوي عليها حقاً، فأن المنطقه برمتها، وفي صدارتها (المشرق) بصدد مخطط (إعاده ترتيب) قد يكون واضح الاهداف لدي من يقومون عليه. في ذات الوقت فإن هذا يوفر مايمكن وصفه بأنه مناخ (قنص الفرص) إقليمياً، للاستفاده من وضع قلق.. يؤدي الي ترتيبات لم توضع في حُسبان (الخطط الأولية).
إن التاريخ لايكرر نفسه (وقائعياً) كما قد يعتقد الكثيرون، لكن قيمه ودروسه يمكن أن تتكرر عملياً بصورة أو أخري. وإذا كان هناك محللون يعودون الي سيناريو (سايكس - بيكو) الذي أعاد تقسيم خرائط المنطقه بعد الحرب العالميه الأولي.. فإن هذا لايَشترط ان يكون هدف (سايكس- بيكو) هو نفسه المقصد الأخير ل(قلاقل) الشرق الاوسط الآنيه واضطراباته الحاليه المستفيده أو الناتجه عن مناخ (الثوره) أو (التثوير).
لقد إستهدف سيناريو عشرينات وثلاثينات القرن الماضي رسم حدود جغرافيه وتوزيع نفوذ، تأسست وفقاً له دولاً صمدت بشكلها السابق قُرابه القرن.. الان وبعد تسعة عقود فإن الهدف قد لايكون تقسيماً علي الأرض يؤسس دولاً جديده بقدر ماهو إعادة تفتيت تلك الدول داخل نطاقها.. وإقحامها في صراعات أيديولوجيه ومؤسسيه وأيضا عرقيه تجعلها دولا قائمه ولكن غير متماسكه، موجوده ولكن أقرب الي الهشاشه.
إن الوصول بالدول الي تلك الحاله من الهشاشه قد لايشترط فيه ان تكون مؤهله لثورة او إضطرابات سياسيه، وإنما يمكن أن يتم هذا عبر طُرق اخري، من بينها تفجير الفتن الداخليه، وتوظيف الكيانات غير المعلنه، واللجوء الي (التثوير) إذا لم يكن للثورة مبرراً حقيقاً في أرض الواقع.
قبل قرن، كان الشعار الذي مثل وقوداً لعملية إعادة التقسيم واسعة النطاق هو (التحرر) من الاحتلال، الذي لم يتحقق عملياً إلا بعد أن تمت إعادة التقسيم ببضعه عقود مرت.. الان تغطي الإضطرابات المتصاعده شعارات براقه حول مساعي الشعوب نحو الديموقراطيه وتطبيق حقوق الانسان.. وبقدر سمو هذا الهدف فإن لهاث الشعوب نحو مقصدها الحميد- لاسيما تلك التي لديها مبررات للثورة - إنما يؤدي الي أوضاع لايمكن توقع بلوغ الهدف العظيم لها إلا بعد أن تكون قد عانت من ويلات ومعاناة لاتجعلنا نتوقع أن تصل الي التمتع ب(الديموقراطيه المنشوده) في الجيل الحالي.. بل في عصر من سوف يرثوه وربما من هم بعدهم.
عملية (إعادة الترتيب) الحاليه، تنطوي علي مجموعه من الأهداف التي لم تكن واضحه حين بدأت موجات تفاعل ماعرف باسم (الربيع العربي).. وهي :
* عمليه إعاده توزيع القوي إستراتيجيا في المشرق العربي، بحيث يؤدي ذلك الي نشوء معادلات تقوم علي مجموعه من الدول التي لاتحقق تفوقاً من أي نوع في مواجهه إسرائيل.. تفوق حالي او محتمل في المستقبل.. سكاني أو إقتصادي أو مؤسسي.. بحيث تتساوي الرؤوس، أو تمنح إسرائيل عناصر التفوق الإستراتيجي الأبعد، بغض النظر عن تفوقها العسكري.
بمعني أوضح، إذا كانت هناك دول يمكن أن تمثل تهديداً سكانياً في محيط إسرائيل فان تلك الدول تظل منشغله في صراعها الذاتي بحيث لاتكون قادره علي إستثمار قدراتها السكانيه.. وهنا يبرز مثال مصر. وإذا كانت هناك دولاً تلوح في أفقها قدرات تنمويه سوف تحقق بها نهوضا مستقبليا علي المستوي الاقتصادي ينقلها الي مصاف اخري.. فانها تتعثر في إضطرابات داخليه تمنعها من مواصله هذا النهوض وتستغرق في صراع أيديولوجي أو طائفي يعرقلها.. وهنا تبرز أمثله دول الخليج المختلفه. وإذا كانت هناك دولاً تتميز بالعمق المؤسسي لطبيعتها كدوله - حتي وان عازتها الحداثه - فانها تنغمس في تطاحن مؤسسي يفقدها قيمه التماسك وبدلا من ان تتقسم جغرافيا تنشطر داخليا وتصبح (عديمة القوام) او ذات (قوام بلاقيمه)..وهنا قد تبرز مصر مجددا.
* الهدف الثاني، وهو من الأهميه بما كان في عملية إعادة الترتيب، ويتوازي مع الرغبه الدولية لإنهاء ماعُرف بإسم (الحرب العالميه علي الارهاب)، هو إستبدال (الغطاء القومي العروبي) الذي كانت تتحرك وفق مفرداته سياسات وتوجهات وخطط غالبيه دول المشرق العربي، خصوصا دول الطوق المحيطه باسرائيل.. ب (الغطاء الايديولوجي الاسلامي) الذي يوفر فُرصاً لحدوث توافق مُعقد بين مصالح الدول الغربيه الكبري وعلي رأسها الولايات المتحده.. مع تنظيمات الإسلام السياسي وفي مقدمتها الإخوان المسلمين.
إن هذا ينطوي علي رغبه في سحب البساط من تحت تنظيمات العنف والارهاب باسم الدين وفي صدارتها (القاعده) ومن هو علي شاكلتها ومايدور في فلكها من تنظيمات (السلفيه الجهاديه).. وبالتالي تحقيق أكثر من أمر :
- إطفاء ماكينات الحرب الغربيه التي إستنزفت كثير الطاقه والجهد في بقاع إسلاميه مختلفه.. خصوصاً أفغانستان.
- تحقيق ماقد يكون مصالحه مع التيارات الدينيه المتطرفه التي تعتقد الولايات المتحده أنها سبب الشعور المعادي لها في مختلف الدول الإسلاميه.
- إستبدال (القاعده) كتنظيم دولي كان يتعلق به شغف الراي العام الاسلامي لاسباب مختلفه، بالتنظيم الدولي للاخوان المسلمين، إذا ما أعتبر انه الكيان الذي حقق انتصارات سياسيه علي الارض في مختلف الدول.
- ترسيخ طبيعه الصراع السُني - الشيعي في المنطقه كنوع من التمهيد لمسرح العمليات الاقليمي علي المستويات الدينيه والسياسيه في الاستعداد لمتغيرات سوف تشهدها الاعوام الثلاث المقبله بشأن الخيار النووي الايراني.
- إتاحة تصنيف المنطقه من جديد علي أسس دينيه، بما يتيح أدواراً لقوي من خارجها في صدارتها تركيا، إستنادا الي المقوم السني، بعد ان كان توصيف المنطقه قوميا وعروبيا يحجب عنها الانغماس في اي دور اقليمي مؤثر.
كنتيجه لذلك فان ايران وهي تري عمليه اعاده الترتيب الاقليميه تتم تحت استار تأجج المشاعر والاضطرابات الربيع العربي، راحت بدورها تحاول ان تجد لنفسها موقعا موازيا في المعادله الجديده التي تري انها حين تكتمل لن تكون في صالحها علي الاطلاق. وفي هذا السياق فاننا يمكن ان نلاحظ مايلي :
- بصورة او اخري خسرت ايران حليفيها من السنه، تنظيم القاعده الذي خسر مواقعه لاسباب مختلفه وكانت بينه وبينها علاقات وثيقه غير معلنه، والتنظيم الدولي للاخوان الذي كان علي تنسيق كامل معها في حرب غزه ٢٠٠٩.. بعد ان تبدلت اوراقه الاقليميه وخرج من معادله كانت تضعه من قبل مع حزب الله وايران وسوريا وقطر في سياق واحد.
- في ضوء هذه الخساره وحدوث الاستقطاب الديني في المسرح الاقليمي طائفيا فان ايران واصلت عمليه الارتهان التي اعتمدتها قبل سنوات، بان ساندت النظام السوري الغاشم في حربه المستمره ضد شعبه.. وهي تعرف انه لن يقو علي الصمود..بقصد تاجيل سقوطه لاطول فتره ممكنه تكون خلالها قد رتبت اوراقها.. وتعضيد نفوذها في العراق.. وفي لبنان.. بينما تكاد تفقد ورقه حماس في غزه.. مع وصول الاخوان الي حكم مصر ووضوح قاعده التحالفات الجديده.
- اختلاق الاضطرابات في منطقه الخليج، بما تتميز به من اهميه استراتيجيه خصوصا في امدادات الطاقه، بقصد تاجيل عمليه المواجهه بين ايران والولايات المتحده، اذا مانجحت ايران في اختلاق الاضطرابات في منطقه الخليج.. لاسباب مختلفه.. علنيه وسريه.. بشكل مباشر او عن طريق التنظيمات الخفيه.
في ضوء هذا تفاجأ الجميع بما اعلنته دولة الامارات قبل ايام عن ضبطها تنظيم ديني اغلبهم من اعضاء جماعة الاخوان، اذ بينما انهمك الجميع في تفاعلات الملف السوري العنيفه، والشقاق السياسي الحاد في مصر، كان ان تبين ان واحده من ابرز دول الخليج المتماسكه تعلن انها تواجه خطرا اوجب عليها ان تفرض قواعد السياده الوطنيه ومواجهه الخطر الذي لاح عن طريق ادوات القانون.
ان لكل دوله ان تتخذ الاجراءات التي تراها لحمايه امنها، طالما ان هذا يتم وفق عمليه قضائيه شفافه، وبدون تدخل في هذه الاجراءات القضائيه، فان التحليل الاقليمي للاوضاع المضطربه في المشرق العربي لابد ان تطرح مجموعه من الملاحظات.. انطلاقا من القضيه القانونيه التي فجرها النائب العام الاماراتي، وقد تلت هجومات سياسيه من جماعات وشخصيات اخوانيه استهدفت الامارات قبل غيرها.
- يبدو واضحا أن ترتيبات (المشرق العربي) تحاول ان تمس بشظاياها (الخليج العربي)، المنحصر مابين مطرقة متغيرات دولا عربيه وسندان ارتهان تحاول فرضه ايران.
- انه اذا لم تتوفر بيئه (الثوره) ومبرراتها، يتم (التثوير).
- انه اذا كانت الامارات تمثل نموذجا (تنمويا وحدويا) فانها في ذات الوقت تمثل النمط الذي لاتستهدفه تفاعلات الاقليم، التي تهدف الي تحويل الدول الي (إمارات) او (دويلات)، كل منها منشغل في ذاته..حتي لو بقي شكليا كيانها الكبير علي الخريطه !
- ان المنطقه تدلف حاليا مرحله ان يُفرض علي المواطن خوض الصراع مابين (مواطنته) وولاءه لتنظيم سري - ان كان منتميا - فيحدث الشقاق في داخل الدول.. بينما شكلها من الخارج يبدو كما هو.

كاتب سياسي مصري / مستشار الراي الكويتيه بالقاهره
[email protected]