تعتبر الصحافة الفرنسية، بأنواعها، من بين الأكثر تقدما في العالم، وبين الأكثر تتبعا للأحداث الدولية أولا بأول. وقدم الصحفيون الفرنسيون ضحايا عديدة وهم يقومون بمهماتهم، ما بين خطف واغتيال واعتقال. ويذكر لهذه الصحافة متابعاتها لتطورات الانتفاضات العربية، واليوم خاصة مناصرتها للشعب السوري في نضاله ضد النظام الغاشم الدموي. وبين الصحفيين الفرنسيين أعلام ونوابغ. وتنشر الصحف المقروءة أحيانا تحليلات ووجهات نظر لمفكرين كبار ولمحللين سياسيين ثاقبي النظر تلقي الأضواء على المشاكل والقضايا. كما نذكر دور منظمة quot;صحفيين بلا حدودquot; في متابعة أخبار حرية الصحافة والصحفيين في العالم، وإدانة اضطهادهم، والضغط لإنهاء كل تضييق واضطهاد يتعرضون لهما.
في الوقت نفسه، فثمة قراءة تقول إن الاتجاه الغالب والمهيمن بين الصحفيين الفرنسيين هو الانحياز لليسار وأفكاره وقوالبه الأيديولوجية، مما يخل أحيانا بالتوازن الإعلامي والحيادية وبالتغطية الموضوعية لبعض الأحداث، والداخلية منها خاصة. وقد نشرت مجلة quot;ميدياquot; الفرنسية ومجلة quot;فالير أكتويلquot; نتائج quot;استجوابquot; أجراه معهد [ هاريس أنتر أكتيف] لحوالي 105 صحفيين فرنسيين، معظمهم من العاملين في التلفزيون، عن كيفية تصويتهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. ومع أن العدد المستجوب يعد غير كبير، إلا أن النتائج تؤكد ما كانت مؤشرات كثيرة تدل عليه عن الانعطاف اليساري للصحفيين الفرنسيين. وهنا، وكما بينت في مقالات سابقة، أستخدم شخصيا مصطلحات يمين ويسار ووسط كما هو دارج في القاموس السياسي الفرنسي، وهو، في اجتهادي، لا يعبر بدقة ووضوح عن معنى اليسار واليمين، هذا إذا كان اليسار يعني السعي المثابر للإصلاح، وتغيير الواقع السلبي، ومكاشفة الشعب بالحقائق مهما كانت مؤلمة، ومحاصرة دائرة المحظورات التي تحد من حرية الرأي والتعبير. وبصيغ أخرى، إذا كان اليسار يعني التجرد من الأيديولوجيا وبعض الديماغوغية، ومن المسلمات المسبقة مهما كانت براقة وجميلة ونبيلة كشعارات.
الدراسة المذكورة كتبت بطلب من الصحفي روبيرت مينار مؤسس منظمة quot; صحفيين بلا حدودquot; ومسؤولها حتى 2008، وهو كذلك مؤسس مجلة ميديا. ويقول المحلل فابريس مادواس، الذي يتصدى لتحليل الأسباب والخلفيات الثقافية لهذه الظاهرة السياسية، أي الانعطاف اليساري لمعظم الصحفيين، إن ظاهرة تصويت الصحفيين يسارا كانت تتضح من مؤشرات كثيرة، ولكن الحديث عن ذلك كان محظورا، وإن مينار أقدم على خطوته لكونه يتمتع بذائقة الاستفزاز وبقدر مناسب من الشجاعة.
هذه الدراسة لم تكن استبيانا، فالاستبيان يكلف كثيرا، وإنما كانت استجوابا للصحفيين من خلال التويتر. ويقول مدير الدائرة السياسية ودائرة الرأي في معهد هاريس إن الصحفيين الذين تم استجوابهم قد أجابوا بصراحة عن جميع الأسئلة التي وجهت لهم.
إن نتائج الاستجواب أظهرت بالأرقام المحددة أن نسبة تصويت الصحفيين لليسار كانت أكثر بكثير من نسب تصويت بقية الفرنسيين المقترعين [ الأرقام في مجلة فالير أكتويل عدد 12 تموز 2012]. وقبل هذا التاريخ بكثير، نشرت مجلة ماريان الفرنسية في نيسان 2001 إجابات صحفيين سئلوا عن الجهة المرشح الرئاسي الذي سيصوتون له، فأجاب 63 بالمائة من الصحفيين بأنهم مع اليسار؛ وأما اليمين فلم يحصل بين الأجوبة على غير 6 بالمائة. وهناك عمليات التصويت المتزامنة التي تنظم في معاهد الصحافة كل مرة، فنتائجها هي الأخرى بليغة. فبالتزامن مع الانتخابات الأخيرة، صوت طلبة الصف الأول في مركز تكوين الصحفيين هكذا: هولاند، ثم ميلانشون [أي أقصى اليسار]، ثم بايرو. وفي المدرسة العليا للصحافة في مدينة ليل كانت النتائج : هولاند، ميلانشون، إيفا جولي [ الخضر]. وفي معهد سيزا الصحفي كان التصويت: هولاند، ميلانشون، سركوزي، بايرو. وفي مقالاتنا عن الانتخابات الفرنسية الأخيرة، لاحظنا كيف كان الصحفيون يتعاملون مع كل من مرشح اليمين ومرشح اليسار في المناظرة التلفزيونية بينهما، وكيف كان من بين الأسئلة التي توجه لسركوزي ما هو استفزازي وصادم خلافا للتعامل مع المرشح ndash; الرئيس الحالي - فرانسوا هولاند.
من بين البرقيات السرية التي نشرتها ويكي ليكس برقية للسفير الأميركي تقول إن الصحفيين الفرنسيين الكبار ينحدرون من نفس المدرسة التي ينحدر منها الكثيرون من الساسة. ويقول المحلل فابريس إن هناك أسبابا تاريخية وثقافية للظاهرة التي نتحدث عنها، منها أن معظم الصحفيين ذوو تعليم جامعي وثقافة مناسبة، وينحدرون من فروع العلوم السياسية والآداب والتاريخ، وهي فروع تجذب نحو أفكار المساواة والتسامح والنظرة الكونية والانفتاح على الآخر، ولاسيما طلبة العلوم السياسية. ولا وسط ثقافيا في فرنسا يمكن أن يجذبهم غير اليسار الفرنسي، الذي كون لنفسه بنفسه سمعة أنه راعي القيم المذكورة، التي لخصها فابيوس [ وزير الخارجية الحالي] بما يلي: quot;السياسة هي أخلاق، وإن حقوق الإنسان هي شباب العالم، وإن معاداة العنصرية روح فرنساquot;. فاليسار هو حاضنة طبيعية لوسائل الإعلام لأن سمعته في كونه وحده يدافع عن المظلومين والضعفاء بينما اليمين عندهم هو مع الأقوياء والأغنياء، كما أنه عنصري تجاه غير الفرنسيين! وبحسب الكاتب، فإن الصحفيين الفرنسيين، بغالبيتهم، يعتقدون بأن ما يرونه هم هو وحده الصحيح ولا نقاش حوله، ومن يعارض فهو في معسكر الشر. فهم مع هولاند لأنه ضد الأغنياء وهم ضد سركوزي لكونه مع الأغنياء، وهذا في تناس للأزمة المالية الطاحنة والعجز الهائل والديون الطاحنة، وما يعنيه كل ذلك من ضرورات التوفير والاقتصاد في النفقات العامة وتنشيط المنافسة الصناعية الفرنسية. وهذا لا يتم يتصعيد الضرائب، الصاعدة أصلا، والتي فتحت- حتى قبل الدورة الثانية من الانتخابات - أبواب هجرة عدد كبير من الأغنياء أو استثمار أموالهم في دول أخرى كالولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما؛ وحتى المحامي الناجح والطبيب اللامع والفنان المبدع والثري، وأمثالهم هم عند اليسار بمثابة مصاصي دماء ذوي الدخل المحدود والمهاجرين، من شرعيين وغير شرعيين. وقد فرضت الحكومة الجديدة من الضرائب الجديدة ما يساوي أكثر بقليل من 9 مليارات يورو بينما قدرت محكمة التدقيق الحسابي ضرورة توفير 33 مليارا لمعالجة العجز والديون في الميزانية القادمة. وهذا لا يتم بإنشاء آلاف من الوظائف الجديدة، وبملاحقة الصناعيين الذين يوفرون الأعمال، وبالتضييق الضرائبي على الأثرياء، وبعدم إجراء الإصلاحات البنيوية وتغيير العادات القديمة في الصرف بلا حساب، ولا بتسهيلات جديدة للمهاجرين غير الشرعيين، أو مواصلة فتح أبواب الهجرة الشرعية بلا ضوابط.
ونذكر أيضا أن عددا غير قليل من صحفيي اليوم كانوا يوما ما من الناشطين في أحداث1968 الشبابية، والتي برزت فيها التنظيمات التروتسكية والماوية. وعلى أيدي بعض هؤلاء تدرب العديد من الصحفيين الجدد. وقد توظف الكثيرون منهم في صحيفتي لوموند ولبراسيون اليساريتين. ومعروف أن الناشطين السياسيين من الشباب في فرنسا، ما بين 1960 و1980، كانوا بغالبيتهم من التروتسكيين. وفي أحداث 1968، كانت لبعض المجموعات الشبابية والطلابية النشيطة نشراتها الصحفية اليومية والأسبوعية. وهذا كان تمرينا للعشرات والعشرات منهم، ثم انتقلوا من ميدان السياسة لميدان الصحافة.
يذكر أيضا أن ثمة ظاهرة صحفية فرنسية تلفت النظر، وهي أنه عندما تقع جريمة يكون مقترفها عربيا أو مسلما لا تذكر الصحف [والتلفزيون خاصة] اسمه، أو تذكره اضطرارا بعد يوم أو يومين، وذلك خوفا من تهمة الإسلامفوبيا كما يقال. وهذا يعني أن باستطاعة وسائل الإعلام، والتلفزيون خاصة، إخفاء بعض الحقائق المهمة التي يجب أن يعرفها الرأي العام. ومع أن الصحفيين يتهمون صاحب الصحيفة بممارسة الهيمنة، إلا أن سلطة صاحب الصحيفة تبقى محدود تجاه جمعيات المحررين والنقابات الصحفية التي يهيمن عليها اليسار.
يقول بعض محللي الدراسة التي نتحدث عنها إن وسائل الإعلام الفرنسية تؤثر كثيرا على الرأي العام والمجتمع بالأيديولوجيا التي تبثها، والصيغ النمطية التي تكررها، والاستبيانات التي تنظمها، وبالخبراء والمثقفين الذين تستضيفهم، وهم في الغالب نفس الوجوه. وقد لعبت القنوات التلفزيونية دورا كبيرا في أبلسة سركوزي وتشويه سياساته. ويتهم حزب سركوزي بأن كل الإجراءات والتدابير الجديدة للحكومة الفرنسية جاءت إدانة ومسخا ومحوا لكل ما قامت به إدارة سركوزي، وآخر ذلك إلغاء قانون وضع المهاجر السري في محتجز لحين دراسة حالته واتخاذ القرار المناسب، وبدلا من ذلك، سيتم حجزه 12 ساعة فقط وخلال هذه الساعات القليلة يجب اتخاذ القرار، الذي قد يكون في الغالب لصالح المهاجر كما يبدو. وسبق لرئيس تحرير مجلة quot;نوفيل أوبزرفاتيرquot; اليسارية دانيال أن كتب:
quot; الأجانب يجب أن يكونوا عندنا كما لو كانوا في بلادهم. هذا هو القانون العظيم للاستضافة. نعتبرهم ضيوفا، ونهيئ بيتنا لاستقبالهم. والأحسن أن يعرف الأجنبي عاداتنا وتقاليدنا لكيلا يشعر بالإحباطquot;. أما عن واجبات الأجنبي في احترام ومراعاة قوانين ومثل الجمهورية فلا كلمة واحدة عنها!
وأخيرا، وكما بينت في المقدمة، فإن هذه الملاحظات والتحليلات لا يجب أن تقدم صورة سلبية ومشوهة عن جميع وسائل الإعلام الفرنسية وعن الصحفيين الفرنسيين عامة، والذين نجد بينهم أعدادا، حتى في صحافة اليسار، من صحفيي الموضوعية والشجاعة الأدبية والفكر النافذ، ولا يجب أن تنسينا نصرة الإعلام الفرنسي للانتفاضات العربية، واليوم خاصة لقضية الشعب السوري المستباح والمهدورة دماء بناته وأبنائه بلا حساب. فللصحافة الفرنسية حسناتها، كما لها سلبياتها، ولا ينبغي أن يطمس الإيجابي بسبب السلبي.