يكثر الحديث هذه الأيام عن مسلسل فرقة عطا الله التي عرضتها شاشات القنوات الفضائية والفضائية العراقية في رمضان، ولا يزال الحديث عنها قائما ومستمراً. فثمة من يقف مع المسلسل وثمة من يقف ضده أو يرفضه. ويؤخذ على المسلسل مثلا قول عادل الإمام quot;إن الذي حصل في العيد أشعرنا جميعاً بالإهانةquot; والمقصود كما فهمها الناس هو ما حصل للطاغية العراقية عندما نفذ فيه حكم الإعدام يوم عيد الأضحى!

وهكذا تأتي الخلافات مع وضد المسلسل، مع إنشغالات صحفية وعتابات سياسية وتوبيخ لمدير القناة العراقية ولجنة شراء البرامج ولجنة فحص النصوص، وما إلى آخره من مهازل هذا العصر في الدراما والسياسة والقنوات الفضائية العربية المزدحمة على الأقمار الإصطناعية!
دعونا بداية نحدد مستوى الأعمال الدرامية ومستوى الكوميديا في العالم العربي.

في كل بلد عربي قمعي تحكمه أجهزة مخابرات لابد من وجود مهرج يطلق عليه ممثل كوميدي. فإن لم بتوفر ينبغي توفيره وصناعته. ويخلق منه نجم محبوب ومشهور وتتاح له فرص تقديم المسلسلات والمسرحيات والأفلام السينمائية وتسلط عليه الأضواء ويحبه الجمهور وأيضا يحبه الرئيس الحاكم وزوجته وتشكره أجهزة مخابرات الدولة. ثم ترشحه الدولة كي يمنح لقب سفير فوق العادة في الأمم المتحدة!

ولنأخذ بعض الأمثلة. quot;عادل أمامquot; مثلا هو ممثل من درجة عشرين وتحت ولا علاقة له بعلم التمثيل ولا بالأداء وبالنسبة لي فهو شخصية كريهة على الشاشة وعلى المسرح لا أطيقها على الإطلاق، فهو ليس أكثر من مهرج وطبعا ليست عندي عداوة شخصية معه في الحياة إنما أتحدث هنا عن ظله الثقيل على المسرح. ويأتي بعده شخص يسمونه غوار الطوشي في سوريا ومثله جلال العظمة. وتجد في الخليج مهرجين كثر يقلدونهم!

ما يحصل أن الدولة القمعية عندما تشعر بأن ثمة إحتقان بين الناس وتريد تفريغ ذلك الإحتقان فتعطي الفرصة لأحد المهرجين لكي يقدم مسرحية متأكدة، السلطة، بأن المسرح سوف يغص بالناس وسوف تشتعل الصالة بالتصفيق عندما يقف الممثل ndash; المهرج وهو يمسك الهاتف مخاطباً جده السوري المتوفى وهو يسكن الجنة في السماء ويسأله جده quot;شلونكم.. ناقصكم شي؟quot; فيجيبه الممثل ndash; المهرج quot;لا كلش عدنا ما ناقصنا شي بس الكرامةquot; فيهب الجمهور بالتصفيق ويهب الجمهور لإلتقاط الصور التذكارية مع الممثل النجم، ويدعى من قبل الرئيس وزوجته لتناول طعام العشاء وأيضا تلتقط معه الصور التذكارية، وعندما يزور المخابرات لإنجاز معاملة السماح بالسفر مثلا، يستقبله رجال الأمن والمخابرات بالصلوات ويلتقطون معه الصور التذكارية. ومع عادل إمام يحصل نفس الشيء في شاهد ما شافش حاجة لألقاء النكات البايخه quot;أنا غلباااااااااااااااااااان.. غلبااااااااااااااااااانquot; ويصرخ فاغراً فمه ويجلس في قفص الإتهام شخص مكشر الإنياب لتعذيبه عند الضرورة. أو يجلس العظمة في شوارع دمشق ممثلا دور الشحاذ بتكليف من أجهزة الأمن لكي يراقب المارة والأجانب الذين يدخلون إلى سوريا ومن مهنته كشحاذ يربح كثيراً. وعندما تنتهي مهمته الأمنية ويطلبون منه العودة للعمل داخل مقر الأمن يرفض لأنه بات يحصل من مهنته كشحاذ على مدخول مالي أكثر من راتبه الذي يتقاضاه كرجل الأمن. وطبعا هذا موقف يصب بشكل مباشر في خدمة رجال الأمن والمخابرات. فيصبح العظمة نجماً بين الناس والأجهزة الأمنية. أما أهل الخليج فصاروا يتسابقون في لبس باروكات الشعر ولبس الملابس المزركشة والإتيان بالشخصيات المفرطة في بدانتها أو المفرطة في قزميتها كي يضحك الناس منها وعليها وينتقون من اللغة أبشع الألفاظ وأكثرها رداءة وبذاءة وإلقائها من خلال فم معوج أو تأتأة تافهة وهم يشدون المخدات حول مؤخراتهم كي يثيروا ضحك الجمهور المتلقي الذي باتت لديه ظاهرة هذه الكوميديا، هي المطلوبة والمحببة بحكم الإعتياد القسري!

هذه الأعمال لا تنتمي إلى فن الكوميديا ولا تنتمي لفن الدراما لا من قريب ولا من بعيد. هي مجرد شعارات وتهريج ضمن موضوعات مفتعلة، الهدف منها إمتصاص نقمة المجتمع والمواطن وأظهار الأنظمة بمظهر الديمقراطية في إتاحة هوامش التعبير والنقد الإجتماعي والسياسي.

مرة دعيت إلى حفل عشاء بعد مؤتمر للبيئة في لندن وقد دعي للمؤتمر عدد من الصحفيين والفنانين. وجاء حظي البائس أن يقابلني في الطاولة ممثل أردني من هذا النمط من الممثلين المهرجين وكان ضمن الوفد الأردني الأعلامي، وبعد أن تعرف علي أراد أن يقدم نفسه ويثبت موهبته، وكان قدم في عمان مسرحية كوميدية يقلد فيها شخصية quot;ياسر عرفاتquot; وبدأ يحدثني أولا عن المسرحية وما حققته من النجاح وكان علي أن أرسم إبتسامة الإصغاء ثم بدأ يرتشف بعض الويسكي الذي أمامه فبدأ يعيد تمثيل ما قدمه على المسرح. بداية بصوت منخفض ثم إقتضت الضرورة الدرامية أن يرفع صوته وبدأ يرفع صوته وهو يقدم شخصية ياسر عرفات بطريقة كريكتيرية. كنت أريد أن أدلق ما بجوفي من طعام فقررت مغادرة الطاولة بحثا عن مكان آخر ولم أفلح وإضطررت لمغادرة الحفل!

إن هذا الكم من المهرجين تحت لافتة الكوميديا هو ليس سوى تهريج غير قائم على أي أساس من أسس العمل الكوميدي الذي هو أصعب وأجمل الفنون الدرامية. الكوميديا هي كوميديا الموقف التي تألق فيها quot;شارلي شابلنquot; وquot;بستر كيتونquot; والكثير من نجوم هوليود حتى غير الكوميديين منهم وغير المتخصصين في الكوميديا لكنهم ووفق أعمال كوميدية عالية المستوى تألقوا في فن كوميديا الموقف.

إنتشار وتعاطف الجمهور مع هذه الكوميديا التهريجية في مسارح وشاشات التلفزة العربية يدلل على تدني الوعي لدى الجمهور المتلقي. وهذا هو الذي حدا بالقناة العراقية بإعتبارها قناة الجهل واللصوصية الفاضحة إلى شراء مسلسل quot;فرقة عطا اللهquot; دون أن تفحصه وتراقبه ليس فقط من الناحية السياسية والأخلاقية ولكن أيضا من الناحية الفنية والقيمة التقنية والأدائية. ولكن سياسة النهب وما يسمى quot;الشفطquot; هي التي تفتح خزينة عشرات الملايين من مالية القناة العراقية كي تشتري مثل هذا المسلسل وغيره وتستوفي عمولتها لتكتشف ليس بعد توقيع العقد وإنما بعد عرض المسلسل وإنتباه الجمهور لما فيه من مشاهد غير لائقة سياسياً أو أخلاقياً فتضطر القناة إلى تغيير موعد عرض المسلسل إلى ما بعد منتصف الليل حتى لا يراه الجمهور متناسين أن هناك جمهور في أمريكا يشاهدونه صباحاً بسبب فرق الوقت. كل ذلك يجري وسط سرقات مفضوحة في بعثرة ليس أموال الوطن الخائب والخسران والتعبان حد الموت بل أيضا في تشويه ذوق المتلقي.. ويبدو أن هدف التشوية وتدني الحس الإنساني وليس الجمالي هو الهدف من سد فم القناة التلفزيونية بالتبن! فقد كشفت من قبل هذا المسلسل الوثيقة في تقاضي نسبة مالية من قيمة مسلسل أمام الفقهاء محمد الباقر وقدر المبلغ المسروق ستمائة إلف دولار. والوثيقة نشرت!

هكذا تتوالي عروض الأعمال الدرامية التافهة وغير الدرامية التافهة وتستبعد أية محاولة جادة ولو كانت جد بسيطة من مسار الإستهتار بأموال الوطن وبذوق الناس ووقتهم الذي ضاع وسط هدير المدافع والمفخخات الواقعية والتلفزيونية!

يعيش العراق أسوأ حالة من حالات الربيع العربي الفصل قبل الأخير من مهزلة الخراب الآتي، حيث نعيش فصولاً تافهة من الحياة بخط بياني منحدر نحو نقطة الصفر.
إن كوميديا الواقع في العراق لا تحتاج إلى أعمال درامية لأن العمل الدرامي التراجيدي منه أو الكوميدي يحتاج إلى موضوعات بمستوى القيمة الفنية وهو لا يحتاج إلى مهزلة كي نقدمها على المسرح أو من على شاشة التلفزيون بصيغة مهزلة درامية!

كوميديا مهزلة الواقع لا تحتاج إلى كاتب درامي ولا تحتاج إلى ممثل درامي. كوميديا مهزلة الواقع تحتاج إلى quot;بشرquot; يحملون صفة الإنسان يقومون بعملية توعية أخلاقية ووجدانية لشعب فقدت من وجدانه هذه الصفات وبات يقترب من القطعانية فيسكت عما يدور حوله من المهازل وهو لا يتناول سوى التبن في غذائه الجسدي والروحي وهو ساكت!

لم يعد الحديث عن اللصوص مهماً لأن الحديث عن اللصوص والخزائن المنهوبة من قبل كل رجال السلطة وكل رجال الدين وغيرهم بات مكرراً ويومياً وفي كل وسائل الإعلام وبات لا معنى له ولا معنى للحديث عنه، وهو كما يقالquot;ما لجرح بميت إيلامquot; أو كما يقول المتنبي quot;وصرت إذا أصابتني سهام.. تكسرت النصال على النصالquot; حيث لم يعد ثمة مكان في الجسد يمكن أن تصله نصال الدناءة والخيبة والنهب وتحقير الوطن التي يرميها الواقع على جسد الأمة وجسد الوطن العراقي.

تقول الأخبار الواردة من الوطن quot;إن وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وبأمر من وزيرها علي الأديب قد سحبت شهادة الدكتوراه التي منحتها عمادة كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد في الثاني عشر من شهر تموز الجاري 2012 بتقدير جيد جداً للطالبة إقبال عبد الزهرة باقر الربيعي وعنوان الأطروحة quot;رؤساء الحكومات العرقية بين التخبط والإنجازquot; وسبب سحب الشهادة من الطالبة أنها عملت إستبيان لألف مواطن عن أفشل وأفضل رئيس وزراء مر في تاريخ العراق فجاء الإستبيان أن أفضل رئيس وزراء هو عبد الكريم قاسم وأفشل رئيس وزراء هو نوري المالكيquot; هذه نتيجة الإستبيان من قبل عينات من المواطنين إختارتهم الطالبة لا على التعيين، مع أن صاحبة الشهادة هي مهجرة من مدينة بعقوبة بعد أن نسفت القاعدة بيتها عام 2006 لأنها ساهمت في الحملة الإعلامية لدعم الإئتلاف العراقي الموحد ما يعني أنها ليست ذات موقف معاد لدولة القانون ورئيسها ولكنها أدرجت الإستبيان في الأطروحة!quot;

كوميديا طلب سحب الشهادة من الطالبة الباحثة لأنها أوردت ما جاء في الإستبيان وليس موقفا شخصا منها ضد رئيس الوزراء يأتي فيما كافة الوزراء يحملون شهادات مزورة سواء عبر الأنترنت والجامعات الوهمية التي تتأسس من قبل المحتالين، أو شهادات من مؤسسات دينية نفعية أو بلدان تبيع الشهادات مثل البلدان الإشتراكية السابقة التي سقطت أنظمتها أو حتى من سوق مريدي!

هذه هي الكوميديا المرة التي تعيشها الأوطان وهي لا تحتاج إلى مهرجي الكوميديا، لأن تناول هذه المهازل في الأعمال الدرامية على غرار شاهد ما شافش حاجة أو كاسك يا وطن أو فرقة عطا الله، تناول مثل هذه المهازل عبر البرامج الدرامية لا يؤدي سوى لخدمة السلطات القمعية والسلطات التافهة.

الواقع من أجل كشف حقائقه عبر الدراما الصحيحية والحقيقية، كوميدية كانت أم تراجيدية تحتاج إلى مبدعين حقيقيين يكتبونها ويثيرون ضحكاتنا المرة ويضعون أصابعهم على جراح الواقع عبر نزهة فنية عالية المستوى ترتقي بالإنسان إلى مديات شفافة في تحليقه بالحلم الإنساني الواقعي أو الدرامي.

أما تغيير واقع المهزلة المضحك في هذه الأوطان وفي وطننا العراقي بالذات فإنه يحتاج إلى مبدعين في علم السياسة والإجتماع والإقتصاد والثقافة وليس إلى لصوص من سقط المتاع.. متاع هذه الدنيا المتردية!

كاتب وإعلامي عراقي مقيم في بريطانيا

[email protected]