في البداية اود التعرض الى موضوع توأمة المدن، فهناك عرف دولي سائد هو ان تتعاون مدينتين حرتين ذات سيادة في امور الخدمات او التعليم او الصحة الخ.. ويسمى ذلك التعاون بالتوأمة، وهي حالة صحية لما فيها من فوائد لكلتا المدينتين، وهي ليست كالتوأمة السيامية المميتة والحاصلة بين بغداد وطهران.

كثر الحديث عن الوجود الايراني في العراق، نشأته، نوعه، حجمه، مدته، الخ.. حتى اصبح شيئاً بديهياً ولكن دائماً كان هناك تشكيك في هذا الامر، وفي بعض الاحيان يُتهم المتحدثون فيه بالمبالغة او بعدم امتلاكهم الدليل، وهذه هي تُهم مؤدبة ومشروعة ويمكن الرد عليها من خلال البحث والادلة، اذا ما قورنت بالتهم الطوبائية، وهي الاكثر شيوعاً والتي يُراد منها تأجيج الحس الطائفي للتغطية على اي انتقاد يوجه الى ايران، ومن تلك التهم، الطائفية والعنصرية او العمالة سواء للدول العظمى او لدول الاقليم.

ويمكن تفنيد تُهم الطائفية والعنصرية وتطمين المتخوفين منها، بأن الكثيرين ممن تعرضوا لذلك هم من الشيعة انفسهم والذين كانوا من اشد المدافعين عن ما يُسمى quot;بالثورة الاسلاميةquot; لاعتقادهم الخاطئ بأنها كذلك، والذي تبين لهم فيما بعد كما تبين للعالم بأسره بان ايران ليست سوى دولة شمولية كغيرها، سوى انها امعنت في تسييس الاسلام والتشيع واستخدمتهما كمظلة لتحقيق احلامها التوسعية والعنصرية. فنشأة التدخل الايراني في العراق يتلخص بثلاث مراحل، المرحلة الاولى هي قبل الاسلام عندما احتلت ايران الساسانية العراق، والمرحلة الثانية هي احتلال العراق من قبل الصفويين في القرن السادس عشر الميلادي وكان احتلالا فكرياً وعقائدياً، وذلك بالهيمنة على الوازع الديني والمذهبي الحساس لشيعة العراق عن طريق سيطرتهم على اهم عصب فيه، ألا وهي الحوزة العلمية في النجف الاشرف، تلك المدرسة التي تخطى اليوم عمرها الالف عام بعد ان اسسها العَلَم وشيخ الطائفة الشيخ الطوسي رحمه الله، علماً بأن عمر التشيع في ايران هو لا يزيد عن خمسة قرون.

والمرحلة الثالثة والحديثة لدخولهم الى العراق والتي كانت بحنكة ودهاء غير مسبوقين، فكان احتلالا بجيش الغير، ولعل هذه المرحلة هي الاكثر خطورةً وربما ستكون الاطول زمناً. دخلوا فاتحين بلا قتال مستغلين تلكquot;الفوضى الخلاقةquot; التي احدثها الامريكان عندما ازاحوا الدكتاتورية التي جثمت على صدر العراق لعقودٍ من الزمن، فكان احد الاعراض الجانبية والممكن تفاديها لذلك العلاج الامريكي للسرطان العراقي، هو دخول الجيوش الامنية السرية من ايران، كدخول البكتيريا المتعطشة للفتك في الجُرح المفتوح، فكان الامريكان بالنسبة للعراقيين كجرّاحٍ ماهرٍ استأصل ورماً خبيثاً بنجاحٍ كبير، ليستهتر فيما بعد متباهياً بنجاحه تاركاً الجرح الحساس الذي فتحه دون تضميد ! فيتلوث ذلك الجرح ليصاب الجسد بحمى شديدة، ويهرب ذاك الجراح البارع والعديم الضمير تاركاً مريضه المسكين بين الحياة والموت. لذا فكان دخول الايرانيون دخول شبه سري ومنظم ومدروس بشكل هندسي عالي التقنية، فدخلوا لا على شكل ايرانيين بل كعراقيين، مستغلين وجود ذلك العدد الكبير من المُهجريين العراقيين الذين هجرهم جلاد العراق قسراً الى ايران بحجة ان اصولهم ايرانية، وهي اكذوبة اراد منها تغطية احقاده الطائفية والعنصرية على الشعب العراقي المظلوم، لتستغلهم ايران وترجعهم بعد ان نظمتهم عقائدياً وولائياً على شكل احزاب سياسية ومجالس ثورية وتيارات ومنظمات سياسية وحقوقية وانسانية وصحفية وتعليمية، وجميعها يتميز بطابع ديني شيعي، ونجح حكام طهران ذلك النجاح الباهر نظراً لعلمهم بالفراغ النفسي والروحي الموجود عند شيعة العراق الذين يشكلون الغالبية من الشعب العراقي، وذلك بسبب حرمانهم من قبل الدكتاتور من ممارسة شعائرهم الدينية الموروثة منذ ما يقارب الخمسة قرون اي ما بعد الاحتلال الصفوي الذي ابتكر معظمها، وايضاً نجحوا نتيجة لقوة جهازهم الامني الموروث من الشاه والذي حافظوا عليه وطوروه، سوى انهم غيروا اسمه من سافاك الى اطلاعات، وادخلوا عليه التحسينات الكثيرة واهمها النكهة الدينية والمذهبية، لينشطر ذلك الجهاز انشطاراً اميبياً ولتتفرع منه مؤسسات امنية اخرى كثيرة من اهمها مؤسسة الحرس الثوري الايراني التي لعبت دوراً كبيراً في العراق ولبنان واليمن ودول اخرى كثيرة والآن في سورية، حتى أذهل عمل تلك المؤسسات المخابراتية في نجاحها اغلب المؤسسات الامنية العالمية، فمنذ باكورة وجودهم في العراق دخلوا في مجال الاعلام بكافة اشكاله وسيطروا عليه سيطرة كاملة، واسسوا شبكة من المحطات الفضائية والصحف اليومية والمجلات الاسبوعية والشهرية، ناهيك عن المقالات الصحفية بعد ان اعدوا جيلاً كبيراً من الصحفيين والمحللين السياسين والباحثين في هذا المجال، وكذلك دخلوا مجال الرياضة والشباب والاندية لما تمتلكه من شعبية واسعة بين الشباب العراقي المولع بها، ودخلوا وسيطروا على اغلب النسيج العشائري في العراق لعلمهم التام بالمجتمع العراقي وما تمثله العشيرة بالنسبة له وخصوصاً بعد ان فُقِدَ الامن ذلك الفقدان الممنهج، ودخلوا في موضوع التربية والتعليم لما فيه من حساسية ونفع لهم عن طريق وضع البرامج وطرق التدريس والتي تتناسب مع توجهاتهم في ترسيخ وجودهم، وكل ذلك عن طريق الوزراء والوكلاء والمدراء العامون الذين كان يأمر بتعينهم من وراء السِتار quot;لورنس ايرانquot; ألا وهو رجل الظل السيئ الصيت الآغا قاسم سليماني، الذي يتصرف وكأنه بمثابة (اُستندار عراق) اي محافظ العراق.

وفي رأيي ان اهم ما تدخلوا فيه وسيطروا عليه بقبضة حديدية هو المواكب الحُسينية، تلك المواكب التي هي بمثابة الشريان النابض لاغلب قلوب العراقيين، وكذلك انشاء المراكز الدينية والحسينيات وتأهيل وتدريب جيوش جرارة من الخطباء والرواديد الحُسينيين.

وتطورت المرحلة بعد مرور ما يقارب العقد من الزمن لينتقلوا الى مرحلة اكثر تطوراً وتماشياً مع الزمن، فبدأوا بتأسيس تيارات علمانية وليبرالية معارضة لاحزابهم الحاكمة، وترى ان تلك المعارضة الوهمية والمختلقة لا تتحرج من فضح فساد حكام العراق الجدد في سبيل امتصاص النقمة وكسب الشعبية والتأييد.

كُل ذلك من اجل التجذر في الهيمنة والسيطرة الكلية، وبذلك استطاعوا وبكل نجاح افشال المشروع الامريكي في العراق والمنطقة بأسرها. وبالفعل فأنهم بدأوا بحصاد اولى ثمرات هذا العمل الجبار لهم، وهو افشال الحصار الاقتصادي الدولي المفروض عليهم، عن طريق العمل تحت مظلة العاصمة الثانية لايران والتي هي عنوان الموضوع، ألا وهي بغداد ! فطهران هي العاصمة الرسمية المحاصرة اقتصادياً من قِبل الامم المتحدة، والتي لا يمكن لايران الدولة ان تبيع وتشتري من الاسواق العالمية من خلالها، اما العاصمة الثانية والغير رسمية لها بغداد التي على العكس من طهران فأنها مُدلللة من قِبل امريكا والغرب، لِذا فإن البيع والشراء وتبييض الاموال وتغيير العملة وكل ما يتعلق بالاقتصاد الخارجي يمر من خلالها، فمثلاً لو طرحت سؤالاً لشركات اوروبية او امريكية، لو طلبت منكم طهران تكنلوجيا معينة او سلعة استراتيجية ما، هل تزودوها بذلك ؟ الجواب سيكون كلا لان ذلك مخالف للقوانيين الدولية، ولكن اذا اعدت طرح السؤال نفسه وبدلاً عن طهران تقول بغداد، فسيكون الجواب نعم وبكل سرور، فبغداد اليوم هي ليست بغداد الامس، ففي بغداد اليوم quot;الديموقراطية وحقوق الانسانquot; ! وهي على اي حال صديقة للغرب وامريكا بالخصوص، لذا فطلباتها مقبولة. لك الله ما اغباكِ يا امريكا! هل من الصعب ان تستورد بغداد وتشحن الى طهران عبر رفح ؟؟ نعم رفح، ولكن شتان ما بين رفح ١ (مصر وغزة) وبين رفح ٢ (بغداد وطهران)، ففي رفح ١ الحدود قليلة ومراقبة من قبل اسرائيل، اما رفح ٢ فطول جبهتها هو اكثر من الف ومائتي كيلو متر، ولا حاجة الى الانفاق الخطرة والضيقة، بالاضافة الى ان الامريكان اُصيبوا بالعمى (لا اعلم ان كان مؤقتاً ام دائمي) وميليشيات الاحزاب الحاكمة والموالية تتبنى النقل العلني، فالمسؤلين العراقيين الذين كرمتهم طهران بمناصبهم ألا يردون لها ولو بعض من الجميل ؟ فالفساد المالي لحكام بغداد الجدد قد جاوز المائة مليار دولار بكثير، فاين ذهبت كل تلك الاموال؟ انها اموال خزينة دولة نفطية كبرى، فهي لا يمكن ان تكون ملك للمسؤلين العراقيين وحدهم، كونها ارقام اكبر من حجمهم بل اكبر من حجم اي فرد او حزب ولا يمكن تداولها، فاليوم مبالغ بسيطة جداً قياساً بأموال حكام بغداد اذا اردت ان تودعها فقط في اي بنك فضلاً عن ان تسحبها او تتصرف بها، تراهم يجرون معك تحقيقاً كبيرا جداً، ومن الممكن رفضها واخبار الجهات المختصة او مصادرتها، فكيف بالارقام الفلكية للميزانية العراقية المنهوبة، فعندما نسمع ان الوزير الفلاني بلغ فساده المالي مائة مليون او اكثر او اقل، فهل بأمكانه ان يودعها في بنك ما ؟ هذا مستحيل سوى اذا كانت دولة من وراء ذلك، فكل المؤسسات المصرفية العراقية بما فيها البنك المركزي تعمل لصالح دعم الاقتصاد الايراني وليس العراقي، ناهيك عن المؤسسات المتعددة ذات العمليات المالية المشبوهة التي اُنشئت من اجل طهران، لذلك نرى الانعدام الكامل للخدمات والامن في العراق كون ذلك يتناسب مع الصالح العام لطهران، وعلى العكس من ذلك ان يكون العراق متعافياً وقوياً،

وفي العام الماضي كانت هناك اخبار في الاعلام عن تهريب نفط الى ايران وسورية، وادخال عملة عراقية مزورة واغراق السوق العراقية بها واستبدالها بالدولار لاخذه الى طهران، ولا اقول تهريبه لان التهريب هو ما بين دولتين، فبين بغداد وطهران هو اخذ ومن طرف واحد وليس تهريب، ورأينا تأثيراتها المدمرة على اقتصاد العراق وهبوط الدينار لعدة مرات. وفي الشهور الاولى من اندلاع ثورة الشعب السوري، قيل أن حكومة المالكي قامتبدفع مبلغ عشرة مليارات دولار الى نظام الاسد بحجة انها مستحقات تجارية حسب ادعاء المالكي، والذي كذبته الادارة الامريكية الخجولة، وصفقة اجهزة الاتصالات الامريكية المتطورة التي استوردتها بغداد بواسطة وزارة الاتصالات، لتنتهي بيد النظام السوري ليقمع بها ثورة شعبه.

فكل هذا العطاء المالي السخي الذي تقدمه بغداد للاسد الحليف الازلي لطهران، بالاضافة الى الاسلحة والمعدات والافراد، أليس كل ما ذكرناه اعلاه دليلا قاطعا على وجود عاصمتين لايران؟ فهذه إذن هي التوأمة السيامية المرفوضة والتي يعيش فيها احد الاجنة على حساب حياة الجنين الاخر.

فهل انصفنا في البحث واعطينا الادلة الكافية الشافية، أم ستأتي الردود التقليدية نفسها، والتهم الباطلة عينها يكيلها لنا المغرضون؟