في تاريخ شعب كوردستان محطات يتوقف عندها الباحث والمراقب وهو يمر بقناة يتخللها مشروع نهضة هذا الوطن الحلم، انها تواريخ اجتمعت فيها عصارة ما أنتجه هذا الشعب، ففي السادس عشر من أغسطس 1946م بدأت بواكير حركة سياسية غدت بعد سنوات قليلة حزب ديمقراطي يقود حركة تحررية عارمة يفجر أولى ثوراتها في الحادي عشر من أيلول 1961م التي أنجزت أول اعتراف قانوني ودستوري بالاستقلال الذاتي لشعب كوردستان في آذار 1970م، والمحطة الثالثة كانت اندلاع انتفاضة آذار 1991م التي أسست لإقليم كوردستان الحالي.
لقد أعقبت سنوات سايكس بيكو واتفاقية سيفر ومؤتمر الصلح في لوزان، من 1916م وحتى قيام المملكة العراقية بولايتيها البصرة وبغداد وأخيرا الموصل بحدود 1925م، حقبة من الانتظار الممل وخيبة الأمل الكبيرة بالقوى العظمى المبشرة آنذاك بالحرية والانعتاق والديمقراطية، وبشركاء الوطن في المملكة الجديدة، وذلك بتحقيق الحد الأدنى مما اتفق عليه في تبعية الموصل للمملكة العراقية بدلا من تبعيتها للدولة التركية الفتية آنذاك، حيث منح الكورد في كوردستان العراق والذين كانوا يشكلون أغلبية سكان ولاية الموصل أصواتهم لصالح عراقية الولاية مقابل الاعتراف بحقوقهم الأساسية والسياسية والثقافية، وما يترتب على ذلك من الإدارة الذاتية، وكما فشلت إدارة العراق السياسية آنذاك في تلبية تلك الحقوق، فشل المجتمع الدولي وعصبته أيضا من وضعها في مجال التطبيق أو المطالبة بتطبيقها من قبل تلك الإدارات.
وفي خضم تلك الحقبة وما أنتجته من حركات وأحزاب ومنظمات جاءت كرد فعل طبيعي لذلك الفشل الذريع في تحقيق أماني وتطلعات هذا الشعب، تبلورت ونضجت مجموعة أفكار وأسس بشكل يؤهل النخب الوطنية والثقافية والسياسية على تأسيس حركة قومية ترتقي في مفاهيمها وأطروحاتها على العشائرية والمناطقية، وتندفع بمشروع نهضوي شامل لشعب حيوي يعشق الحرية والحياة ويحب العمل والإنتاج والتطور، ورغم النكسة الكبيرة التي حصلت لمشروع تأسيس أول جمهورية كوردستانية في التاريخ المعاصر حينما اغتالوها وهي ما زالت تحبو، الا ان كوكبة من خيرة رجال كوردستان ونسائها أصروا على إكمال وتطوير وضع أسس مشروع كبير لنهضة كوردستان يبدأ برفض الانهيار والاستكانة داخل الذات البشرية والإيمان المطلق بإمكانية الإنسان القادر على التغيير لو امن بذلك وتحدى الصعوبات.
كانت هذه المبادئ انطلاقة الزعيم مصطفى البارزاني في منتصف أربعينات القرن الماضي والتي غدت الأسس الأولى للانطلاق إلى آفاق الحرية، بتحرير الذات الكوردستانية والانعتاق والشعور بالحرية والعمل من اجلها دوما، وبذلك تبلورت اللبنات الاولى لمشروع النهضة في كوردستان العراق على شكل حزب سياسي واجتماعي يضم بين صفوفه كل شرائح المجتمع وطبقاته ومكوناته العرقية والدينية والمذهبية، بعيدا عن أية ادلجة فكرية أو عقائدية لصالح طبقة أو دين أو مذهب أو نظرية خارج المصالح العليا لشعب وارض كوردستان، ولذلك كانت هذه الحركة تمثل تماما التكوين الحقيقي لمجتمعات كوردستان ومزاج الأهالي عموما دونما توغل في تعصب قومي أو عرقي أو ديني، فقد كان الجميع كوردا وتركمانا وآشوريون وكلدانا وعربا يكونون مفاصل تلك الحركة التي ارتقت بنضالاتها الى مستوى الانتماء إلى مواطنة رفيعة أسست رابطة تجمع كل المواطنين دونما الالتفات إلى انتماءات أخرى دون الوطن، وبذلك تهيأت فرص كبيرة للبدء بمشروع حضاري كبير كانت خطواته الأولى اندلاع ثورة أيلول عام 1961م التي أرست أول اعتراف تاريخي وقانوني بالحكم الذاتي لكوردستان العراق في اتفاقية آذار عام 1970م.
بعد عقدين من توقيع اتفاقية آذار التي تنصلت حكومة البعث عن تنفيذها خرج الكوردستانيون من اكبر مأساتين عاشتهما شعوب منطقة الشرق الأوسط، وهما جرائم التطهير العرقي والإبادة الجماعية المعروفة بـ ( الأنفال 87/88 ) والتي حصدت ما يقرب من مائتي ألف طفل وامرأة وشيخ، ثم تلتها عمليات الإبادة بالأسلحة الكيماوية متمثلة بمأساة حلبجة ( 1988م )، خرجوا منها بقدرة أعلى وتحدٍ اكبر في آذار 1991م بانتفاضة عارمة تحررت على إثرها معظم مدن وبلدات كوردستان التي احتضنت خلال اقل من عام انتخابات عامة لتنشئ أول برلمان كوردستاني منتخب في ارض محررة وبإشراف أممي منحها شرعية تأسيس أول حكومة وطنية في تاريخ كوردستان القديم والحديث عام 1992م.
ورغم كل ما واجه تلك الحكومة والبرلمان من تحديات كبيرة أدت خلال السنوات الأولى من الاستقلال الذاتي إلى احتراب داخلي كاد أن يدمر البلاد، إلا إن الشعب نجح في تحقيق مشروعه الحضاري النهضوي في السلام وتوحيد الإرادات لبناء الوطن وخلال عقد واحد أنجز الكوردستانيون ومؤسساتهم التشريعية والتنفيذية وبقية مؤسسات المجتمع المدني ورجال الأعمال والمستثمرين والأكاديميين، ما عجزت عنه الدولة العراقية خلال ثمانين عاما من تأسيسها في هذه المنطقة، وما نشاهده اليوم من نهضة تاريخية كبرى في الأعمار والتعليم والجامعات والبنى التحتية للماء والكهرباء والمواصلات وتأهيل الإنسان في تنمية بشرية معاصرة حولت الإقليم إلى ملاذ آمن ومنطقة من أكثر المناطق جذبا للاستثمارات في الشرق الأوسط.
انه حقا حصاد عقود من النضال العنيد والمعفر برائحة الشهادة من اجل حياة أفضل لأولئك الذين حافظوا على قدسية وطهارة نضالهم وصفحاتهم البيضاء، دونما أن تضطرهم تلك الهجمات البربرية إلى فكرة الانتقام أو الإرهاب أو التعرض للمدنيين، لينجزوا وجها من أوجه مشروعهم الحضاري ونهضتهم التي تتمثل اليوم بهذا النموذج الحي إقليم كوردستان الناهض.
[email protected]
التعليقات