لاشك أن ملفات فترة حكم النظام الليبي السابق الطويلة بقيادة العقيد معمر القذافي وعائلته و الممتدة بين أعوام 1969 و2011 هي أكبر بكثير من كل مايمكن رصده بسهولة أو معرفة مداخلاته بيسر، فتلك الفترة الزمنية الطويلة قد حفلت بمتغيرات داخلية وإقليمية ودولية و أسست لمرحلة من الركود السياسي و الإجتماعي ورسخت حالة الخراب المعلن في واحد من أغنى الأقطار العربية قاطبة إلا أنه خضع للأسف لتجارب تخريبية دمرت إقتصاده و أجهزت على الكثير من عناصر التقدم، ولكن إنطلاقة الثورة الليبية في ربيع 2011 ووقوف العالم الحر لنصرتها و تمكن مقاتلي الشعب الليبي الحر الشجاع من حسم الموقف ميدانيا بعد تضحيات رهيبة في الصراع الدموي ضد كتائب القذافي قد رسخت مفاهيم جديدة و أسست لرؤية أخرى لليبيا حرة وجديدة لم تزل تعاني من بقايا إفرازات الماضي اللعينة وهي بقايا ليست سهلة بالمرة، لقد مارس النظام الليبي السابق المهزوم أساليب إجرامية عتيدة في التعامل مع أحرار ليبيا، وسن سنة الإبادة البشرية المباشرة ضد كل من يشتم منه رائحة معارضة العقيد وعصابته، بل مارس علنا ومن خلال وسائل و أجهزة الدولة الليبية عمليات إرهاب و إستئصال مباشرة ضد المعارضين كما حصل في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ضد ما أسماه ب ( الكلاب الضالة )! و يقصد المعارضين الأحرار و أغتال من إغتال في دول أوروبا و مصر و المغرب و غيرها، ولم تقف ضده أي موانع تعيق إرهابه بل أن بعض المعارضين تم للأسف شرائهم من الدول التي هربوا إليها كحالة عضو مجلس الثورة السابق الرائد عمر المحيشي.

فيما تكفلت المخابرات الأمريكية و البريطانية بتسليم البعض الآخر لمخابرات العقيد كما ورد في الوثائق السرية الموجودة في فرع الأمن الخارجي وفي مكتب موسى كوسا الذي إنشق في بداية الثورة الليبية؟، وضمن مواسم التحولات و الإنقلابات الفكرية و السياسية و المزاجية لنظام العقيد الذي كان مورست أساليب بشعة لتصفية المعارضين ولقمع الشعب الليبي و تشجيع فرق القرود و المهرجين الذين صفقوا طويلا لتفاهات و جنون القذافي و تحوله من القومية الناصرية للإشتراكية ثم للجماهيرية و أخيرا للإفريقية بعد أن نصبته الجماهير الإفريقية و قبائل الزولو ملكا لملوك إفريقيا و أمغارا لأمازيغ الصحراء الإفريقية الكبرى بعد أن ورث أمانة القومية العربية بالنص عن جمال عبد الناصر كما قال!!، لم تبق موبقة أو دسيسة لم يلجأ إليها نظام العقيد التهريجي، و لم يبق أسلوب زاعق و إستفزازي إلا و لجأ إليه، بل أنه دخل في مواجهات علنية مع الأسطول الأمريكي في خليج سرت عام 1985 كانت نتائجها مثيرة للسخرية وصنف العقيد أمريكيا على كونه أخطر رجل في العالم!!

كما توبع نظامه دوليا في أحداث تساقط الطائرات من لوكربي أواخر عام 1988 والطائرة الفرنسية في النيجر إلى مغامرات أخرى سكت عنها الغرب و أمتصه ماديا عبر التعويضات المليارية الخرافية التي إنتزعت من أفواه الليبيين قبل أن يصدر الغرب ذاته حكم الإعدام الناجز و النهائي والسريع وبدون محاكمة لكي لا تتسرب الفضائح و التفاهمات السرية بين الغرب و نظام العقيد ؟ و الذي نفذ في أكتوبر 2011 لينتهي العقيد و تنتهي أيامه و تباد سلالته وليتحول لنكتة سوداء في تاريخ الشعب الليبي الذي يبحث اليوم عن موطأ قدم لبداية جديدة يعيد معها صياغة وضعه و تحديد خياراته المستقبلية في ظل تحديات عظمى و صراع أفكار ورؤى عميق و معقد، وككل الطغاة و المستبدين فإن القذافي لم يكن يمارس كل تلك الجرائم بمفرده.

بل كان يستند لمنظومة أمنية و إرهابية أدت له كل خدمات التصفية الجسدية و نفذت فصول رغباته الإرهابية وفي طليعة هؤلاء رفاقه الذين بقوا معه حتى النهاية رغم ان بعضهم مثل السيد موسى كوسا هرب من قاطرة النظام قبل أن تنقلب وفي لحظات التحول التاريخي المفصلية، إلا أن البعض الآخر كعمر دوردة و الخويلدي الحميدي.. و السيد عبد الله السنوسي مدير مخابراته الرهيب ظلوا معه حتى النهاية قبل أن تتقاذفهم الأقدار و تصيبهم الحتمية التاريخية التي لا مهرب منها، وإستعادة عبد الله السنوسي من موريتانيا التي هرب إليها قادما من المغرب تمثل نصرا معنويا و نفسيا وماديا كبيرا لأرواح شهداء الشعب الليبي الحر، فالرجل يمثل الكنز المعلوماتي الذهبي للنظام البائد، وهو خزينة هائلة من الأسرار و إستعادته يمثل إنتصارا أيضا للثورة الليبية التي أثبت رجالها و قادتها أنهم على مستوى المسؤولية، فالسنوسي أحد الشهود الأحياء القلائل على كل ملفات إرهاب نظام القذافي وكان المسؤول الأول عن مطاردة و أعدام المعارضين في الخارج كما كان أحد كبار المسؤولين في حلقة النظام الأمنية الضيقة عن مجزرة سجن بوسليم الرهيبة صيف عام 1996 والتي صمت عنها الضمير العالمي المنافق وذهب ضحيتها أكثر من الف قتيل، ولا ننسى أيضا دوره الكبير و المباشر في تغييب الإمام موسى الصدر ورفاقه وهو الملف الأكثر إثارة و غموض في ملفات المخابرات الليبية.

فالقضية لم تزل بين أخذ ورد و تدور في معلومات ضبابية غير واضحة ووحده عبد الله السنوسي هو من سيبدد الغموض و يضع النقاط على الحروف و يكشف التاريخ السري و الأسود للنظام البشع الذي كان يمثل فيه دور المقصلة و طاحونة العظام البشرية، نتمنى مخلصين أن تتنزع و تنشر معلومات في غاية الأهمية تحملها ذاكرة و إرشيف السنوسي الذي كان واحد من أخطر الجلادين في التاريخ الليبي المعاصر، وهي معلومات مثيرة لو أتيح لها أن تنشر بشفافية وتجرد ودون تدخل خارجي لحجب المعلومة ستحدث إنقلابا معلوماتيا هائلا ستبدد هالة شعارات حقوق الإنسان التي يرفعها الغرب، فحجم النفاق الدولي أكبر من كل ماهو متوقع.


[email protected]