قدم اليسار العراقي مذ منتصف القرن الماضي وبعدها مقاربات لرموز إسلامية مع أفكار ماركس والاشتراكية عموما، فقيل مثلا: quot;أبو ذر الغفاريquot; الصحابي الثائر للفقراء اول اشتراكي في التاريخ. اراد التوفيق بين وجه من وجوه الدين والاشتراكية، لتمريرها وتحقيق مكاسب على مستوى المجتمع بإقناعه ان quot;الدين لا يرفض الاشتراكية والدليل أبو ذر quot;...!
كي يؤصل فريق سياسي لنفسه أيديولوجيا داخل مجتمع متقاطع معه، فانه يبحث عن تلك المقاربات، السياسي يقفز على التاريخ للكسب واقناع المترددين من الاتباع، ديدن البحث عن السلطة والنفوذ يمر بالإيهام احيانا، وللناقد والمثقف والمفكر ديدن آخر وخطاب مختلف.
الا ان أداء المثقف عالق في مكان السياسي السابق، مشغول بمنهجية الوصف الذي جعل أبا ذر اشتراكيا، ويستخدم المقاربات بفوضوية، يتملق للجمع او يواسي الحال او يبحث عن طريقة يلملم بها شتاته وتردده وعدم اكتمال قناعاته. والذروة تظهر مع عاشوراء، حيث شراك التوفيق بين التحرر من الخلفيات الدينية واستدعاء احدى اهم معالمها لإكسائها ثوب الحداثة.
مقالات العديد من المثقفين، صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، أحاديثهم الخاصة والعامة عن واقعة كربلاء، تصب في اتجاه توفيقي يجمع بين ذكرى دينية وطرح مدني، هكذا يبدو الحال؛ توفيق وجمع ومواكبة، الا ان العمق يثير أسئلة، ويضع المحاولات في مهب التناقض.
لغة التسوية المختبئة خلف ما يجري من تسابق للاستذكار والاحياء انطلاقا من رؤية حديثة او إنسانية، سقيمة، وتنم عن داء ولا يرجى منها العلاج، وتكرس التاريخ بتفصيلاته في الحاضر وتعطي الطائفية مزيدا من الفرص. الاندفاع المحموم مع تغيير المحتوى او الشكل، ليس سوى تحديث شكلي للظاهرة.
البعض يتحدث عن ان طرح المثقف يندرج ضمن تحرير الحدث من نطاقه الديني، المذهبي، التاريخي، شعار عريض فاقد لمراجعة عميقة وعامة وضرورية للواقعة وامتداداتها، ومن هذه الامتدادات وضع مواجهة الحسين مع معسكر يزيد في اطارها الديني، باعتبارها ثورة للإمام الشرعي على الحاكم الفاسق الظالم الذي ينتمي اليه الاخر السني، استخدام لواقعة كربلاء باعتبارها من اهم أعمدة العقيدة الشيعية في المعركة داخل الإسلام، وليس لكونها مواجهة إنسانية ضد الظلم والطغيان.
صحيح ان حجم التحدي الطائفي للسنة والشيعة في المنطقة والعراق يخلق تخندقا وينبش عن كل المقولات والمفاهيم التي تصلح كسلاح في الحرب السياسية والعقائدية والاقتصادية والعسكرية، الا انها ليست حرب المثقف النقدي، بل هي حرب بين طرفين يرفضان وجوده ويريان نقديته تهديدا وجوديا لهما.
لذلك لا يمكن الخضوع للتأصيل المجرد من مراجعة، ولا التأصيل المستسهل بالشعارات، كونه استسلاما لشروط الاندفاعة الجمعية وحراسها، والتعديلات quot;الشكليةquot; التي يجريها بعض المثقفين لا تزعج سلطة القائمين، وربما تكرسها.
الإيقاع المميز ليس بالحديث عن البعد الإنساني او الوطني في واقعة كربلاء، بل دراسة كيفية تحقيقه، في الاليات وليس في النتيجة التي نعرفها جميعا. ومثل هذه المهمة تحتاج الى مراجعة نقدية جادة للتاريخ نفسه، للحدث ذاته، بلا مخاوف وبعيدا عن سطوة الجمهور ومقولاته. وثم مراجعة الطقوس القائمة التي اضحت سلطة مهيمنة لا مجرد طقس ينتمي لحرية الممارسة والشعيرة. والاهم ان لا يندرج هذا، بقصد او بغير قصد، ضمن محاولة تأصيل وشرعنة للصراع الطائفي وتدعيمه برؤى quot;إنسانيةquot;.
بمعنى اخر، تحتاج العملية النقدية الى ان نعرف إمكانية نقل قصة واقعة كربلاء من كونها مواجهة ضد الخصم الطائفي الى مواجهة ضد الحاكم الظالم أيا كان عنوانه وانتماءه ودينه، حتى وان كان اسلاما سياسيا. وفي حال عرفنا إمكانية ذلك، لابد من البحث عن طريق تحقيقه بدقه ودون الانزلاق في هاوية الجماعة.
فهل سيكون هذا ممكنا؟
نظريا ممكن، الا ان الحصول على هذه النتيجة مستحيل مادام الإسلام السياسي صاحب اليد العليا في تحديد اتجاهات الرأي العام ومقدساته.