يحكي ان رجل دين جاء قرية لا يعرف أهلها القراءة، ويتحكم بها شخص امي يدعي معرفة العالم، فشعر الأخير بالخطر، وخطط لمنع القادم من الحصول على ثقة الأميين، دعاه امام الجمع لكتابة اسم quot;حيةquot; فكتب، ورسم هو صورة افعى، وسأل الحاضرين ايهما هي، الاميون لا يعرفون الكتابة بل الرسم.
تاريخنا الديني القريب وليس البعيد فقط، يجعل مثل هذه الحكاية قابلة للتصديق او على الأقل مفهومة، نسخها فيما نقل لنا شائعة قبل قرن وحتى الان. خلّاقة تلك النسخ، تتجسد في التدين الشعبي الموجود سابقا والمتسع راهنا.
صراع quot;التطبيرquot; وشق الرؤوس وجرح الجسد نموذج بارز يشي بحالتنا التاريخية العائدة لتلك الحكاية. مع ذروة الصراع من اجل بناء الدولة العراقية الحديثة وتعقيدات عشرينيات القرن الماضي وحتى الاربعينيات، كانت النجف والمتدين الشيعي تعيشان عالما آخر.
وقتها حاول محسن الأمين الفقيه quot;الشيعيquot; المعروف بمواقفه المدنية وحرصه على خلق مجتمع شيعي غير طائفي ومتعلم، التصدي لبعض المراسم العنيفة انطلاقا من رؤية دينية او مصلحة جماعية، واعتبرها سلوكيات تتناقض مع quot;الإسلامquot; ومع quot;روحquot; كربلاء، ليواجه حملة شرسة في موطنه بلبنان وثم في العراق.
المعارضة لم تأت من الزعامات الدينية التقليدية او مراجع الدين، انبرى خطيب حسيني وشاعر ديني معروف هو صالح الحلي لمواجهته، مستخدما انتشاره الواسع، بلغت مداها عندما سمي أنصار الرأي القائل بحرمة التطبير بـquot;الامويينquot;.
استخدم الحلي التدين الشعبي والعواطف لتأجيج المواقف والتأثير في الشارع، لدرجة ان أي مرجع ديني لم يكن بإمكانه ان يواجه غلواء ذلك، العواطف يصعب مواجتها مواجهتها بأي لغة، حتى وان كانت لغة دينية تنتمي لروح النص المؤسس وليس للخزعبلات. وعندما حاولت المركزية الفقهية ان تواجه الحملة بفتوى شهيرة رجحت رأي الأمين، وجدت نفسها امام غضب التدين الشعبي الذي يقوده الخطباء والماسكون بمفاتيح المراسيم والطقوس الحسينية!
وبمعزل عن الموقف من الفكر الديني والدين بشكل عام، يبدو الصراع بين الأنماط التجارية والدعائية والانماط الفكرية الفقهية كبيرا والهوة اتسعت، وان الدعائي لا ينتمي حتى لمحاولة فهم جادة، انما نمط شعاراتي يريد له اتباعا عبر الضغط على العواطف وابتزاز الانتماء، فخطباء المنابر خصوصا المشاهير منهم، يبقون أكثر قدرة على تحريك الجمع من الفقيه المحاط بالاحترام والمركزية العليا داخل الطائفة.
الشد والجذب الذي دار قبل قرابة القرن بين الدين المؤسس على اصول معروفة والتدين القائم على الدعاية والاستعطاف، لم يمت، بعد قرن نعود له ذاته، يعيش ويؤسس، مع اضافة عنصر جديد دخل عليه، هو الإسلام السياسي.
معادلة الحراك الديني العراقي الراهن تتقاسمها ثلاث قوى ذات تأثير متواز، المرجعية الدينية متمثلة بالمرجع ووكلائه في المدن والاقضية والنواحي العراقية، وفي الجانب الاخر خطباء المنابر الحسينية الذين يبرزون خلال المراسم والطقوس، ويتحكم هؤلاء ببناء معرفة الكثير من البسطاء حول التاريخ والعقائد. ثم يظهر الإسلام الفاعل مذ سنوات في الشارع السياسي ويستعين بالقوتين الاخريتين أحيانا ويساعدهما أحيانا أخرى.
ورغم استقلال القوى الثلاث عن بعضها الا انها تتظافر للتحكم بوعي المجتمع وخلق ثلاث دوائر حوله تحميه من حداثة تهدد الابوية الدينية او سؤال يفكك البنى التقليدية.
التوازن الصعب بين الثلاثة يعني بالضرورة اننا امام ثلاثة اديان وثلاث أولويات، ولكل منها تقاليدها وشروطها وتعاليمها وواجباتها، أي ان المجتمع محكوم بثلاثة قيود مقدسة. وهكذا تتسع دائرة المحرمات والواجبات، وتختنق المباحات، وينساق المجتمع بثلاثية خانقة، مشعوذ وفقيه وحاكم.