يثير مصطلح العلمانية وتطبيقاته على ألواقع أهتمام خاصا تشير ألى ذلك الندوات والأبحاث والمقالات العديدة التي تنشر حول الموضوع.
في البداية لابد من ألاشارة ألى أن ترجمة كلمة Secularمن اللاتينية أو الفرنسية الى اللغة العربية ب العلمانية ترجمة غير موفقة أذ أن Secularكلمة زمانية و تترجمها القواميس (في عالمنا هذا) وبهذا تكون زمانية وليست مكانية كما يشير اليه أصطلاح العلمانية بفتح العين _ العالم-، وكان من الأفضل أستعمال كلمة (دهرية )وهو وصف زماني وليس مكاني مثل كلمة العالم، سوف أضطر لأستعمال مصطلح الَعَلمانية كونه المصطلح الدارج في الكتابات السياسية العربية.

للوصول ألى رؤية واضحة لا بد من العودة ألى أصول ظهور هذا المصطلح وأستعمالاته تاريخيا والفلاسفة الذين طوروا هذا المفهوم في العلوم السياسية والفلسفية ومنها طبيعة أنظمة الحكم و أسس بناء الدول.
بالنسبة للعًلمانية ظهر هذا التعبير في حوالي القرن الرابع عشر الميلادي،
تاريخيا كان الرهبان يسكنون ألأديرة التابعة للكنيسة حيث توفر السكن والأكل مجانا لهؤلاء الرهبان ضمن المؤسسة الدينية،ولكن نتيجة لعوامل عدة، ترك البعض من هؤلاء الرهبان سكناهم في الأديرة و سكنوا مع عامة الناس، وأطلق عليهم Secular بما يعني سكنوا مع عامة الناس، و خرجوا من الروتين اليومي كما أستقلوا في حياتهم المدنية و بقوا على أرتباطهم الديني- الروحي بالدير والدين والكنيسة، أي تم الفصل بين الحياة اليومية للراهب عن حياته ضمن المؤسسة الدينية و قوانينها المتمثلة بالدير و لم يعد رئيس الدير يتدخل في حياة الراهب المدنية من مواعيد أكل و نوم وقراءة الخ، هذا هو جوهر العَلمانية ndash;- عدم تدخل السلطة الدينية في الشأن المدني و سلطته

بحث الفلاسفة على مر العصور موضوعة الحاكم والمحكوم، ومن أين يستمد الحاكم حقه في الحكم،و طبيعة الحكم ومدى عكسه لما يتوقى الأنسان من هذه الحياة. موضوعة الحاكم والمحكوم ظهرت مع ظهور المجتمعات البشرية، بحثت في القدم، وجر بحثها الى معارك كلامية و مسلحة وما زلنا نبحثها اليوم. هناك العديد من النظريات الفلسفية والدينية التي تبحث هذه الأمور وما ترك التاريخ لنا كان واضحا جدا في مسلة حمورابي التي تحتوي على أكثر من مادة قانونية تسلمها الملك حمورابي من ألاله مردوخ وبهذا أصبحت أحكامها ألاهية لا تقبل الجدل و على الملك ومن يأتي بعده تنفيذها. هذه الأحكام الموجودة في مسلة حمورابي، هذه القوانين هي الأخرى أستمدت من قوانين تنظيم الحكم وعلاقته بالاله التي قال بها أهل سومر وأكد قبل ذلك و قد عُكست بعض من هذه القوانين في القانون العبري.

وعلى مر العصور بقيت موضوع العلاقة بين ألله والحاكم والشعب موضوع نقاش وأبحاث، حدثت خلالها ثورات عديدة وحروب ساهمت بها المؤسسة الدينية سواء أيام الفراعنة، وبابل ومن ثم الدول الأغريقية والبيزنطية و الرومانية وبعدها ومعها الكنيسة المسيحية وعلى رأسها بابا روما والذي كان من جملة ما فرض من حقوق تجريد الملوك من تيجانهم، وبدأت معارك بين بابا روما والملوك المؤيديين له والملوك الرافضين لسلطاته الدنيوية رافق ذلك ظهور أفكار جديدة، أفرزتها الحياة وتطور المجتمع ألأنساني، و دعت هذه الأراء الى منع المؤسسة الدينية من التدخل في شؤون السلطة النيوية وأمور الحكم.هناك من أصر على أعتبار حكم الملك مطلق ومخول من السماء وله سلطة الله على الأرض و على المؤسسة الدينية و الدنيوية وعلى الجميع الخضوع له وأتباع أوامره، والأخرى تقول أن ليس للملك سلطة ألاهية والناس أحرار في أختيار حكامهم ووضع القوانين التي تنظم حياتهم.مرت مئات السنوات على هذا الصراع والجدل الفقهي الفلسفي وتطورت أراء عدة في هذا المجال.كما كان من يدعوا الى خضوع السلطة المدنية (الملك أو ألأمير) للسلطة الدينية بابا روما مثلا كان أول من أوائل الذين قاموا بنقلة نوعية فكرية هامة في هذا الموضوع الفيلسوف الأنكليزي لوك ( 1632-1701)عندما قام بنشر أطروحاته الفلسفية بشأن نظريات الحكم،مستفيدا من أفكار أخرين سبقوه داعيا ألى Secular State دولة عصرية (علمانية )لا تتدخل المؤسسة الدينية في شؤون أدارة الدولة وسن قوانينها وتشريعاتها.

و دعى الى فصل السلطة التنفيذية عن السلطة التشريعية، وأن هذه السلطة التشريعية يجب أن تكون منتخبة من الشعب ويجري تغيرها بين فترة وأخرى ndash; ألأنتخابات-، بالنسبة للفيلسوف لوك كان الشعب من الرجال فقط ومن دافعي الضرائب،وتفسير ذلك منطقيا، أذا كنت دافعا للضرائب فمن حقك أن تكون لك كلمة في كيفية صرف تلك الضرائب ولما كان العاطلين عن العمل لا يدفعون الضرائب، ليس من حقهم أعطاء وجهة نظرهم في كيفية توزيع الضرائب وأوجه صرفها، ولما كانت معظم النساء لا يعملن ومن تعمل لا تدفع ضريبة فلا يحق لها التصويت،و أبداء الرأي في كيفية صرف ميزانية الدولة والتي هي حصيلة الضرائب. أضطر لوك بعد نشرأطروحاته حول فصل السلطات والدعوة لعدم تدخل المؤسسة الدينية في شؤون الدولة الهرب خارج بريطانيا خوفا من أضطهاد الملك له نتيجة كتاباته.

حدثت الثورة الأنكليزية عام 1640وأنتصرت، كان لوك في منفاه ومع أنتصارها أخذ قادتها بنظريته في شكل الدولة، والانتخابات وعدم تدخل المؤسسة الدينية في شؤون الحكم، وفصل السلطات ألتشريعية والتنفيذية و أسس للديمقراطية التي تطورت تدريجيا ألى أن وصلت الى ما عليه ألان.

وبعد الثورة الفرنسية وضع الدستور الفرنسي 1871و على نفس المفاهيم التي دعى لها لوك.
في عام 1787 أصبحت الولايات المتحدة ألأمريكية أول دولة تعلن في دستورها أنها دولة علمانية، وأضافت في دستورها مفهوم أخر لفصل السلطات، اضافة للفصل بين السلطة التنفيذية والتشريعية أضافت فصل السلطة القضائية وتشكيل المحكمة العليا الفدرالية وسلطتها القضائية أعلى من أي سلطة أخرى.

بعد الولايات المتحدة الأميركية بدأت تتوالى الدول التي تعلن عن (علمانيتها ) من خلال الدساتير التي تبنتها شعوب هذه الدول في مختلف أصقاع الأرض، سواء كانت الدول الأوربية أو اليابان بعد الحرب العالمية الثانية أو الهند أو بنغلاديش وفي دول أميركا الجنوبية.
هل يمكن فصل الدين عن السياسة؟
العديد من الكتاب والقسم منهم له مواقع مرموقة في الكتابة السياسية أو البعض من السياسين(العلمانيين ) يقولون بفصل الدين عن السياسة، وأعتقد أن هذه الأطروحات سببها عدم الوضوح في الفرق بين ( علمانية ) الدولة و( علمانية )المجتمع.

في (علمانية ) الدولة التي دعى لها لوك و من طور هذه النظرية من بعده كانت الدعوة ألى (علمانية) الدولة الديمقراطية وفي مثل هذه الدولة، كما في الولايات المتحدة الأميركية،مثلا يظهر في الواقع العملي أنه لا يمكن فصل الدين عن السياسة،مثال على ذلك، رجل الكونجرس ألأميركي المنتخب من قبل الناس في ولايته مسيحي كاثوليكي متشدد يلتزم مواقفه وفق عقيدته ومذهبه، وعند التصويت في الكونجرس على موضوع الأجهاض يصوت ضد أي نوع من ألأجهاض ولأي سبب، هذا هو موقف سياسي أرتبط بعقيدته الدينية وأتخذ موقفه أثناء التصويت على هذا الأساس.هناك أمثلة عديدة لا أريد أن أزحم المقال بها.
في الدولة العصرية ( العلمانية ) الديمقراطية تحترم أرادة الفرد وحقه في أتخاذ المواقف الفكرية والسياسة وفقا لقناعته ومن جملة هذه القناعات ألألتزام الديني الشخصي وأتخاذ المواقف على هذا الأساس، سواء كان عضوا في مجلس النواب أو أية هيئة منتخب عنها، ومعرفة الناس له و بمواقفه وقناعاته، حيث تلعب حرية الفرد دور أساسي و هذا ما يفرقها عن عَلمانية المجتمع.
يذكر بعض الباحثين و الكتاب أن هناك عَلمانية متشددة و عَلمانية غير متشددة، و لكن في الحقيقة هناك فرق جوهري وأساسي بين العَلمانيتين عَلمانية المجتمع و عَلمانية الدولة.

علمانية المجتمع
لا يمكن أن تكون هناك عَلمانية المجتمع إلا في نظام دكتاتوري يلجأ للقوة والقسوة لمنع أفراد المجتمع من إتخاذ مواقفهم في الحياة على أساس ديني.
هذا النظام يفرض ( العلمانية )على كل المجتمع وليس على الدولة ومؤسساتها فقط،حيث يتم تحجيم دور علماء الدين ومنعهم من القيام بواجاتهم في نصح الناس وأرشادهم وألاهتمام بالأمور الروحية لهم و للناس بشكل عام، ويقسرالنظام الديكتاتوري الناس على التخلي عن الرموز الدينية في الملبس و كذلك عدم النشر في أمور تخص الدين و كذلك تفسير البعض لأمور دنيوية على أسس دينية،.يسلب الأنسان حقه في السلوك الفردي والعبادة و يعاقب بقسوةمن يخالف اوامره.

و أن مثل هذه المجتمعات لا تعيش في ظل دولة ديمقراطية بل دولة شمولية دكتاتوري تحرم ألأنسان من حريته الفردية وتفكيره الحر، وبالتالي سلوكه الأجتماعي
وتفرض عليه أن يعيش ضمن النظام (العلماني) الشمولي، في مثل هذه المجتمعات يجري فصل الدين عن السياسة قسرا، أو أذابة القوميات ألأقل عددا في القومية الكبيرة أو حتى نفي وجود التعدد القومي أو الديني أو المذهبي في تلك الدولة.

أمثلة على ذلك متعددة منها ما كان في الدول الشيوعية، السابقة والحالية وكذلك في تركيا أتاتورك (العلمانية)الدكتاتورية.لقد أستطاع حزب العدالة في تركيا و هو حزب إسلامي بالخروج بتركيا ومن دون ضجة من واقع عَلمانية المجتمع إلى علمانية الدولة، مجلس النواب بقي هو المرجع في رسم القوانين و تشكيل الحكومات و غيرها من مظاهر الدولة العلمانية المدنية، و من الخطأ القول بخروج تركيا من العَلَمانية، نعم رفضت عَلَمانية المجتمع و تبنت عَلَمانية الدولة وفي دولة يحكمها حزب أسلامي يلتزم الديمقراطية منهجا في الحياة
في جانب أخر معاكس وفي أنظمة دينية شمولية أخرى يفرض تدخل المؤسسة الدينية في شؤون الدولة و مؤسساتها وتلغى قوانين أويجمد العمل بها سبق أن اتخذها ممثلي الشعب، أن كان هناك أنتخاب، ويؤخذ من المواطن حقه الديمقراطي كونه مصدر التشريع وليس هيئات لم تنتخب ولا حق لها سوى أدعاء البعض بالحق ألألهي، تحت مثل هذه ألأنظمة نجد أن اضطهاد الأديان والمذاهب ألأخرى، يصل لحد التكفير في مثل هذه الدول ويجري التعامل مع المواطنين حسب أنتمائهم الديني والمذهبي وتفقد المواطنة أهميتها وهنا تبذرأول بذرات تفكك المجتمع.

عَلمانية الدولة
في الدولة العَلمانية لا تتدخل مؤسسات الدولة في القضايا الروحية للأنسان ففي أوربا والولايات المتحدة ألاميركية تنتشر المساجد والحسينيات الى جانب الكنائس والمعابد الهندوسية واليهودية، وجميعا لهم نفس الحقوق أمام القانون، ولم نسمع عن مذابح ذات طابع ديني أو مذهبي.و كذلك لا تتدخل المؤسسة الدينية بشكل مباشر في عمل مؤسسات الدولة.

وعلى العكس من ذلك نشاهد القتل والمجازر تأخذ طابعا دينيا أو مذهبيا كما في العراق و باكستان، وأستطيع الجزم أن هذا القتل سياسي بالأصل أعطي غطاء ديني أو مذهبي خدمة لتصلت هذه المؤسسة الدينية أو تلك.
الدولة العَلمانية قد تكون دكتاتورية و أبرز الأمثلة التاريخية هي حكم نابليون في فرنسا و حكومات البعث في العراق سابقا و سوريا فهي دول أنظمة الحكم فيها دكتاتورية و لكن في نفس الوقت عَلمانية لا تتدخل المؤسسة الدينية في عمل مؤسسات الدولة ومنها البرلمان وتشريع القوانين وغيرها من أمور تمس العمل المؤسساتي للدولة.

ولكن معظم دول العالم العَلَمانية من بريطانيا وفرنسا الى الهند وباكستان وبنغلادش والبرازيل فهي دول ديمقراطية عَلَمانية تتمتع مؤسسات الدولة بإستقلالها وبعدم تدخل المؤسسة الدينية بشؤنها.
ومن هنا أهمية التفريق بين الدولة المدنية حيث أن الديمقراطية والدستورشرط أساسي في بنائها والدولة العَلَمانية التي يمكن أن تكون دكتاتورية النظام أو ديمقراطيته.

وفي الختام لابد من الأشارة الى واقع الحياة المعقد المتعدد الجوانب ولا يمكن إخضاعه لقولبة محددة، الأبيض والأسود حيزان محددودان ومابينهما هو الحيز الواسع الذي يقبل التنوع في الحياة.
ما ذكرته سابقا هو خطوط عامة لمفهوم العَلَمانية ولكن لا يمكن قولبة تفاصيلها في معادلات رياضية بل هناك تطبيقات تأخذ أشكالا مختلفة والتجارب التاريخية لشعوب الأرض و كيفية تعاملها مع واقع الحياة مستفيدة من تجربتها و من التراكم المعرفي في تطور الانسان.