مع المواجهات الحالية بين كل من كتائب quot;الجيش السوري الحرquot; ومقاتلي منظمة quot;حزب اللهquot; اللبنانية تكون الأزمة في سوريا قد دخلت مرحلة أخرى غاية في الخطورة، ستترك آثارا بنيوية على مجمل الأوضاع في المنطقة. مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة حروب المجموعات العقائدية. فبعد تسليح الثورة نتيجة مضي النظام الحاكم في قمع وقتل المواطنين المطالبين بالحرية والديمقراطية، تدخلت القوى الاقليمية لتشكيل مجموعات مسلحة عقائدية التوجه من أجل quot;تحسينquot; نفوذها في الوطن السوري حال سقوط النظام وحدوث فراغ سياسي. تدخلت دول الخليج وتركيا بشكل خاص. وتدخلت كذلك قوى اهلية اصولية التوجه، واطلقت quot;حملات اغاثة ودعمquot; استقطبت ملايين الدولارات، لم تذهب الى quot;الانفاق على المهجرينquot; كما كان الهدف المعلن، ولكنها ذهبت الى المجموعات المسلحة المقاتلة. ونقلت وسائل الاعلام وصفحات التواصل الاجتماعي صور شحصيات اصولية معروفة في الخليج العربي وهي تتوسط ميادين المعارك وتعتلي هامات دبابات الجيش السوري المعطوبة!.

وبعد فترة التسليح بقليل، ارتفع الخطاب الطائفي الذي اتهم كل من ايران ومنظمة quot;حزب اللهquot; اللبنانية بالوقوف وراء النظام السوري في عملية قتله للمواطنين، والمشاركة في القتل الطائفي. ومع ان ايران وquot;حزب اللهquot; هما عمليا في قلب المعركة ويساندان النظام السوري علانية، بالمال والسلاح، الا ان القصد من وراء التركيز والتهويل على البعد الطائفي للصراع من جانب قوى المعارضة السورية ( الوثيقة الصلة بتركيا ودول الخليج العربي) كان لإدرار عطف العالم السنّي، وتصوير معركة الشعب السوري من أجل الديمقراطية والحرية وكأنها معركة quot;اغلبية سنيّة ضد اقلية علوية مدعومة من ايران وشيعة المنطقةquot;!. وتبنت الفضائيات العربية الطائفية التوجه عينات مختارة من المعارضين السوريين من اجل تمرير هذه الفكرة/المسلّمة، بحيث بات الاستقطاب الطائفي ظاهرا تٌرجم فيما بعد الى وقائع انفجرت على شكل: مواجهات بي السنّة والعلويين في لبنان. اختطاف الحجاج الايرانيين في سوريا من قبل مسلحي المعارضة، ومسيرات العلويين الاتراك المؤيدة لنظام بشار الأسد...الخ.

ودخل تنظيم quot;القاعدةquot; على الخط واستفاد من حالة الفوضى والسعار الطائفي، وبدأ ينفذ هجماته المميزة عبر ارسال مقاتلين انتحاريين يقودون سيارات محملة بالمتفجرات. وتوالت تفجيرات quot;جبهة النصرةquot; وهي النسخة السورية من quot;القاعدةquot;، بحيث كانت ضرباتها هي الأقوى والأكثر ايلاما للنظام، وبالتالي الأكثر نيلا للعطف من جانب المواطنين المؤيدين للعمل المسلح والمقتنعين به وسيلة لدحر نظام الأسد. ونظرا لقوة هذا التنظيم، وغيره من التنظيمات الاصولية الجهادية، وتمدده في الوسط الشعبي السوري، ورهان الكثير من المعارضين عليه باعتباره الحصان الرابح والحاكم المحتمل، وخطابه المطالب بالدولة الدينية وعدائه للاقليات، اتخذت اميركا وأوروبا مواقفا منه ومن العمل المسلح بمجمله. وهنا فقدت الثورة المسلحة الدعم الغربي المأمول، أي تم استبعاد quot;السيناريو الليبيquot; في تسليح الثوار وتدخل الغرب لتدمير الآلة العسكرية للجيش السوري النظامي. وهو السناريو الذي كان الكثير من معارضي فنادق اسطنبول وانطاليا يروجون له في الأشهر الأولى من الثورة.

وبعد مضي أشهر طويلة من الشحن الاعلامي والمناوشات المتبادلة من أعمل خطف وقنص واغتيال، دخلت ايران وquot;حزب اللهquot; على خط المواجهة العسكرية المباشرة وبشكل علاني لالبس فيه. وبتنا نشهد الآن مواجهات بين مقاتلي quot;حزب اللهquot; وبين مجموعات اصولية سنيّة تقول، دائما، انها تابعة لquot;الجيش السوري الحرquot;. والمواجهات مستمرة في المناطق الحدودية وكل طرف يحشد قواته للنيل من الطرف المقابل، في ظل تعبئة طائفية غير مسبوقة على مستوى المنطقة برمتها.

النظام بدوره أدرك بان الأمور سارت نحو منعطف لايمكن الرجوع الى ماقبله، فبدأ بتشكيل quot;جيش شعبيquot; قائم على الولاء الطائفي غالبا أو ( الوظيفية) احيانا. ويجهد النظام وحلفاؤه كثيرا لتلقين هذه الجيش عقائديا وجعله يوقن بان التراجع الى الوراء أمام المعارضة المسلحة هو موت محتم. وهذا quot;الجيش الشعبيquot; العقائدي المدعوم بتراث عامين من انتهاكات المعارضة المسلحة، بات أكثر قدرة على التحرك وشن حرب العصابات والمدن من جنود قوات الجيش النظامي، والذين كان قسم كبير منهم ينشق في اول فرصة تلوح للفرار. وعليه، فقد صدقت نبوءة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي عندما قال مؤخرا: بان سوريا ستغرق في بحر من الدماء، فالنظام لن يستسلم بسهولة، لأن فقدانه للسلطة يعني ابادة الطبقة المحيطة به!.

مانشهده الآن في سوريا باختصار هو اتجاه الصراع منهجا عقائديا وحدوث ضمور واضح في جسد المعارضة التقليدية وهيئات الثورة ولجان التنسيق والروابط المدينة والنقابية، بل وحتى المجموعات المسلحة المنشقة عن الجيش النظامي. ضمور افضى الى التهميش وقلة التأثير، مما لم يترك سوى خيارين: الإرتضاء بذلك، او تغيير الخطاب وتشدده وquot;تطييفهquot;، والانضمام الى المجموعات العقائدية المقاتلة التي لها الكلمة الفصل في ساحة قتال النظام. وعليه، فنحن نرى في المشهد السوري الآن: جيش النظام الذي تبدو نواته الصلبة ظاهرة حاليا أكثر من أي وقت مضى، وquot;الجيش الوطني الشعبيquot; العقائدي المضمون الولاء، وجماعة quot;جبهة النصرةquot; والمجموعات الأخرى المرتبطة بتنظيم quot;القاعدةquot; التي تهدف لبناء دولة الخلافة وتطبيق الشريعة ( وهي كلها خلطة يٌطلق عليها اسم quot;الجيش السوري الحرquot;)، اضافة الى تواجد حقيقي لمقاتلي quot;حزب اللهquot; اللبناني العقائدي المتمترس على الحرب. وهذه كلها تٌشكل مشهدا مدمرا سيودي بسوريا، لاشك، الى ماهو أبعد من الدولة الفاشلة. إلى الهاوية...

وفيما يخص وضع الأقليات فقد تظهر في المستقبل واجهات مسلحة عقائدية للدفاع عن الوجود في خضم الحرب الأهلية، الاقليمية الطابع، الجارية حاليا في سوريا. وفي المناطق الكردية ظهرت منذ أكثر من عام من الآن قوة عسكرية ضاربة هي ( وحدات الحماية الشعبية) التابعة للهيئة الكردية العليا ( سقف يضم الاحزاب الكردية السورية)، وهذه الوحدات يٌقدر عدد أفرادها بحوالي 30 ألف مقاتلة ومقاتل تم تدريبهم على أيدي كوادر عسكرية كردية سورية تمرست في القتال والخبرة لسنوات طويلة في صفوف حزب العمال الكردستاني. وقد دخلت هذه الوحدات في مواجهات مع قوات النظام ومجموعات quot;الجيش السوري الحرquot; الجهادية في حلب والحسكة، واظهرت مقاومة كبيرة وقدرة فذة على التقدم والقتال العقائدي المدعوم بتأييد شعبي كردي سوري وكردستاني عام.

ونظرا لقوة هذه الوحدات وسيطرتها على الأمن في المناطق الكردية ومنعها أي تقدم للمجموعات المسلحة الأخرى نحو منابع النفط، تعمل الدولة التركية حاليا مع بعض الكتائب الاصولية القريبة من quot;القاعدةquot; ومع معارضين ورؤساء قبائل من اجل تشكيل مجموعات مسلحة وتمويلها لقتال هذه الوحدات، وبالتالي، احداث اكبر ضرر ممكن في المناطق الكردية في شمال البلاد.

خلاصة الكلام ان المواجهات في سوريا قد دخلت طور العمل الميليشياوي من جانب النظام والمعارضة على السواء، فيما أصبحت اطياف من الشعب السوري تبحث في تسليح نفسها والتموقع في مناطقها للدفاع عن وجودها أمام عنف النظام وتهديد المجموعات الجهادية الرافضة لكل فكر خارج فكرها المتشدد. فيما زاد الصراع بين المجموعات السنيّة الاصولية المتشددة ومنظمة quot;حزب اللهquot; اللبنانية من مخاطر حدوث مواجهات دامية على أساس طائفي واضح، وهو الأساس الأخطر والأكثر سفكا للدماء وادرارا للحقد طوال تاريخ الحروب العقائدية...