كلمات خالدة هتفت بها حناجر المتظاهرين في أنحاء الوطن العربي. بدأت من تونس و امتدت إلى القاهرة فطرابلس و الرباط و صنعاء و المنامة و لا زال صداها المدوي يجوب شوارع دمشق الحبيبة. شعوب تواقة للحرية خرجت تعبر عن سخطها من أنظمة مهترئة أكل الدهر عليها و شرب، فمنها من لقي حتفه و منها من ينتظر.

لم يكن أكبر المتفائلين في وطننا العربي يراهن على أن يؤدي موت البوعزيزي في تونس إلى ما آلت إليه الأمور في دول مثل تونس و مصر و حاليا سوريا. و لكن سنة الله في خلقه تقضي بأن أي وضع شاذ مآله حتما إلى الزوال و كما قالت الأعراب سابقا quot;دوام الحال من المحالquot;.

إن الأنظمة التي تتحكم في رقاب المواطنين العرب لم تقدم على مر فترات حكمها ما يشفع لها عند مواطنيها، و قد طفح الكيل و بلغ السيل الزبى و مع أول فرصة للتنفس انفجرت الجماهير معبرة عن رغبتها في الانعتاق من براثن الذل و العبودية. كان الأمر عفويا و بدون تنظيم مسبق و وجد السياسيون أنفسهم يجابهون أمواجا من الشباب لا يخافون في الدفاع عن الحق و العزة و الكرامة لومة لائم.

انتصرت الثورة بشكل سلمي في كل من تونس و مصر، و كان ثمن النصر في ليبيا غاليا حيث راحت أعداد هائلة من الضحايا و تدخلت قوات حلف الشمال الأطلسي في المعارك، أما اليمن و البحرين فقد تم القضاء على ثورتيهما بتحالف من السعودية و دول الخليج و ذلك لاعتبارات طائفية مقيتة و بمباركة من أجهزة إعلامية مشبوهة. و في المغرب عقد السياسيون الاسلاميون صفقة مع القصر الذي كان على استعداد لتقديم بعض التنازلات حتى تمر عاصفة الربيع العربي.

أما سوريا و ما أدراك ما سوريا، فقلبي يدمي لمجرد التفكير في ما آلت إليه من خراب و دمار. لقد كانت لدى نظام بشار الأسد فرصة لا تعوض من أجل احتواء الأمر و النهوض بالاصلاحات اللازمة في سبيل توفير حياة كريمة و عادلة للمواطن السوري، و كان لديه من رصيد الشعبية على مستوى الداخل و الخارج ما يشفع له لدى الشعب السوري. تلك الشعبية التي اكتسبها من مواقفه المساندة للمقاومة ضد اسرائيل. و لكن و كما يقول إخواننا المصريون فإن العرق دساس،

و بدل أن ينصت لمطالب شعبه، فضل التعامل الديكتاتوري مع الأزمة على غرار سياسة والده في مجزرة حما.

و لكي يكون موقفي واضحا و لتفادي أي التباس في التأويل لدى الجماهير العربية، فإني أقر بأن الربيع العربي مسألة جد معقدة و أكبر من أن ينظر إليها من منظور تبسيطي. فبرغم توجهاتي السياسية ذات الطابع الاشتراكي و التي تؤمن بالدولة المدنية حيث الدين لله و الوطن للجميع فإنني كنت دائما مساندا للمقاومة الاسلامية سواء في فلسطين أو جنوب لبنان و كنت أعتز بانتصارات حزب الله على اسرائيل، و لكني لن أتوانى في انتقاد موقفه من الثورة في سوريا.

كما أنني لن أتوانى في انتقاد ما يجري في المغرب من صفقات سياسية رخيصة بين السياسيين و القصر من أجل تدجين الشعب و خنق تطلعاته إلى الحرية و العزة و الكرامة.

و إني أدين أولئك الذين لا يتوانون في سب النظام السوري و إنزال اللعنات عليه صباح مساء بينما هم يتفننون في تمجيد النظام الملكي و تعديد مزاياه و الضحك على ذقوننا بأفكار مستهلكة من قبيل أن الوضع المغربي يعتبر استثنائيا في المنطقة و يختلف كليا عن ما يجري في باقي أنحاء الوطن العربي، و كأن المواطن المغربي يوازي نظيره السويسري في التعليم و الصحة و العمل و المرافق الضرورية للعيش الكريم.

و من وجهة نظري فإن تلك العقلية المشوبة بالعبودية ناتجة عن قرون من التدجين لضمائر الشعوب جعلت سقف المطالب لدى البعض ينحصر في إشباع غرائز بدائية كالأكل و الشرب و غيرها و كأننا حيوانات و لسنا أناسا نملك عاطفة و أحاسيسا و عزة و كرامة و بأننا نرفض بأن نستعبد و قد ولدتنا أمهاتنا أحرارا.

على المواطن العربي أن يدرك بأن الثورة عملية تتطلب صبرا كبيرا و تمر بمراحل طويلة قد تتعرض فيها لانتكاسات متكررة ناتجة عن المعادين للتغيير و المستفيدين من بقاء الوضع على ما هو عليه و قد تحصل ثورات مضادة تحبط عزيمة الثوار الحققيقيين و لكن الحق سينتصر في النهاية و ستنتهي عصور الظلام و العبودية لتبزغ شمس الحرية ساطعة على أرجاء الوطن العربي و تتحقق أحلام الشباب الثائر المؤمن بالربيع العربي. هذا ما علمتنا إياه كتب التاريخ و تجارب من سبقونا في هذا المضمار.

و لنعد الآن إلى الوضع الكارثي الذي تعيشه سوريا و الناتج عن تعقيدات الوضع في المنطقة بشكل عام. فلماذا نجحت الثورة بشكل سلمي في كل من تونس و مصر و لم يحصل ذلك في سوريا؟ هل كانت أنظمة مبارك و بن علي أقل دموية و تسلطا من نظام بشار؟ و لماذا نجح الحل العسكري في ليبيا بتدخل أجنبي؟ و لم تجرؤ تلك القوات الغربية على تكرار فعلتها في سوريا؟ أسئلة محيرة و لكن محاولة الاجابة عليها ضرورة حتمية من أجل محاولة فهم الأوضاع الراهنة.

سوريا مرتبطة منذ وقت طويل بحزب الله و إيران في مثلث للمقاومة ضد إسرائيل، هذه الحقيقة لوحدها كفيلة بإعطاء تفسير لعدم تدخل حلف الشمال الأطلسي كما فعل في ليبيا، فإسرائيل و الغرب من ورائها يعرفون يقينا بأن أي تدخل أجنبي في سوريا سيقابله رد إيراني و آخر من حزب الله و هذا ما من شأنه أن يفجر الأوضاع بشكل خطير في منطقة الشرق الأوسط.

بالنسبة لحزب الله، فإنه في وضع لا يحسد عليه. فهو من جهة مطالب من النظام السوري بدعمه بشكل لامشروط، و من جهة أخرى يواجه انتقادات حادة من الشارع العربي بسبب سكوته المشبوه على ما يحصل في سوريا و هذا ما يزيد من حدة النعارات الطائفية سواء في لبنان أو بقية الدول العربية. فالحزب لا يود الدخول في حسابات الرهان على الثورة التي قد تصيب و قد تخيب لأنه و ببساطة لا يريد أن يخسر حليفا استراتيجيا يدعمه في صراعه الأزلي مع اسرائيل. و لكن في نفس الوقت لا يريد أن يورط نفسه في مجازر النظام السوري الذي قد يسقط في النهاية فيجد الحزب نفسه منبوذا من الجماهير العربية التي ساندته في الماضي.

و مع استمرار الوضع على ما هو عليه فإن المتضرر الوحيد هو الشعب السوري الذي يذبح على الملأ دون تدخل من أحد.

و غير بعيد عن سوريا نجد بأن الوضع يختلف في شقيقتها مصر، أكبر الدول العربية تعدادا و وزنا سياسيا. فهنا نجحت الثورة و بأقل الأضرار في تنحية دكتاتور مستبد استمر في طغيانه أزيد من ثلاثين سنة و في النهاية ذهب غير مأسوف عليه.

انتصرت الثورة بفضل عزيمة الشباب المصري الذي لم يكن مستعدا للتنازل عن حقه في إسقاط النظام الفاسد الذي كان يحكمه. و التحدي الكبير الذي ينتظر مصر الآن هو في كيفية التعامل مع مكاسب الثورة. فهل سينجح الاخوان المسلمون في دحض اتهامات العلمانيين و الغرب و بناء دولة ديموقراطية مدنية تتساوى فيها حقوق المواطنين على أساس المواطنة بغض النظر عن الانتماء العرقي أو العقائدي؟ أم سيسقطون في الامتحان؟ أسئلة سنترك الأحداث المستقبلية تجيبنا عنها.

نفس التحليل ينطبق على الوضع في تونس الخضراء حيث يمسك حزب النهضة ذو التوجه الاسلامي بزمام الحكم.

أما اليمن و البحرين فالحسابات الطائفية و مصالح دول الخليح و تقاطعها مع مصالح الغرب تجعل إمكانيات نجاح الثورة شبه منعدمة إذا ما أضفنا إلى ذلك حجم التعتيم الاعلامي الذي تنتهجه بعض القنوات الاخبارية العربية المسيسة.

بالنسبة للمغرب فإن الوضع يتسم بالهدوء النسبي جراء حنكة النظام الحاكم الذي عرف كيف يتعامل مع الأزمة و لكنه قد يكون هدوئا يسبق العاصفة. فلو نظرنا إلى حجم الاصلاحات التي تم اتخاذها، نجد بأنها لا تخدم تطلعات المغاربة. فالدستور لا زال ممنوحا من طرف الملك و هذا الأخير هو الآمر الناهي و له الكلمة الأخيرة في تدبير شؤون البلاد، أما الحكومة فتلعب دور مسكن لأوجاع الشعب إلى حين.

خلاصة القول و كما جاء على لسان المفكر العربي الشهير السيد عزمي بشارة، فإن الوطن العربي يمر بفترة مخاض حقيقية، قد تستمر لسنوات و سنوات و لكن الأساس هو أن التغيير حاصل لا محالة و لا مجال للعودة إلى الوراء.

لقد عاش العرب عقودا من الفساد السياسي و التخلف العلمي و الاستبداد الفكري، فجاء الربيع العربي ليزيل الستار عن كل تلك الترسبات معلنا عن بدء حقبة جديدة و تحديات تنتظر المنطقة من أجل مستقبل مشرق للأجيال القادمة.


كاتب مغربي