رحيل مرغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا خلال أحد عشر عاما، لا يزال حدث اليوم، بريطانيا ودوليا.

من العناوين التي طالعتنا بها quot;الشرق الأوسطquot; وهي تبث الخبر quot;رحيل المرأة التي غيرت وجه بريطانيا والعالمquot;. وهو عنوان يكاد يلخص معظم التعليقات السياسية والصحفية بالمناسبة- ونقول quot; معظمquot; لأن الراحلة كانت امرأة إشكالية، وكما لها معجبون كثيرون، فلها خصوم كثيرون، في بريطانيا وبين اليسار الغربي المتطرف وسواه. فمثلا إن زعيم أقصى اليسار الفرنسي مالينشون قال إنها ستصلى بنار جهنم التي أصلتها لعمال المناجم. والنقابي البريطاني دافيد هوبر قال انه سيشرب بهذه المناسبة كأسا quot;وإنه ليوم رائع. ..إنني لسعيدquot;. ولاعبو الكرة البريطانيون رفضوا الوقوف دقيقة حداد. وطبيعي أن تقييمات كهذه ليست علمية وموضوعية ولا يمكن اتخاذها معيارا للتحليل والتقييم ولحكم التاريخ.
إن عشرات من قادة العالم عبروا عن تقديرهم العالي لدور الراحلة وما تركته من بصمات على المسرح الدولي. ومن هؤلاء ليش فاليزا، السياسي والنقابي البولوني الذي قاد الثورة السلمية في بولونيا ونجح. فهو يعتبرها بطلة للحرية والديمقراطية.
جاءت للرئاسة وبريطانيا تعتبر رجل أوروبا المريض: من إضرابات عمالية مستمرة واضطرابات، وتدهور صناعي، وتضخم نقدي، وضرائب ثقيلة، وبطالة عالية، وسطوة نقابات العمال على النمط الفرنسي، وإفراط في تدخل الدولة في عالمي الاقتصاد والمال على الطريقة الكنزية، التي سارت عليها حكومات ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت الدولة بمثابة دولة الفردوس بمعوناتها الكثيرة للمواطنين.
لم تخف ثاتشر المشاكل عن الجمهور، ولم تخدعه طلبا لشعبية غوغائية زائلة، بل صارحت بحقيقة المشاكل، وما يتطلب من تضحيات جسيمة وإجراءات غير شعبية، مقتدية بتشرشل الذي قال لشعبه خلال الحرب: quot; ليس لي ما أقدمه غير العرق والدموعquot;.
كانت أفكارها واضحة وجريئة، تعلنها ولا تخفيها. وسارت في تطبيقها بلا مراوغات، وهو ما يجعل أدوارد بلادور، رئيس وزراء فرنسا الأسبق، أن يعتبر أن أهم خاصية ثاتشر هي تطابق السياسة والأفكار المعلنة.
كان اختبارها الكبير الأول خارجيا، وهي حرب جزر الفوكلاندز عام 1982 عندما اجتاحت القوات الأرجنتينية تلك الجزر البريطانية، فردت بالقوة وانتصرت. كان شعارها دوما أنه لا يجب ترك المعتدي يتملص من العقاب وإلا فسوف يكثر المعتدون. وهو أيضا ما نظرت به إلى عمليات الإرهاب، وإلى احتلال الكويت. أما معركتها الداخلية الكبرى، فكانت مع إضراب عمال المناجم في منتصف الثمانيات والذي استمر51 أسبوعا. لم تتراجع بل تراجع العمال في النهاية دون تحقيق مطلب ما. وكانت قد مهدت للمعركة بسلسلة من القوانين والمراسيم التي تقيد صلاحيات النقابات وتضع ضوابط صارمة على الإضرابات.
نفذت ثاتشر إجراءات صادمة في مختلف الجبهات الداخلية، وكان ذلك بمثابة عملية جراحية دقيقة وخطيرة تخلف وراءها آلاما ومعاناة بين شرائح كثيرة من المواطنين. ولكن العملية كانت ضرورية لانتشال البلد من أزماته، وكانت هي لا تخفي أسفها لما كانت تلك الإجراءات تسببه من آلام. ومن بين الإجراءات التي صدمت حتى فريقا من زعماء وكوادر حزب المحافظين الحاكم عمليات خصخصة متتالية، وقطع بعض المعونات الاجتماعية المهمة. وكان لمشروع قانون ضريبة جديدة، مثيرة للجدل والاحتجاجات الشعبية العنيفة، أرادت فرضها بإصرار أن جعلها وجها لوجه مع حزبها نفسه، فاستقالت بعد ولايات ثلاث.
خلال سنوات رئاستها بدأت الأوضاع تتحسن لحد كبير وباضطراد، وانتعشت الصناعة، وعادت ثقة المستثمرين وانجذبت الرساميل،. وهبطت البطالة من 10 بالمائة إلى 5 بالمائة، وهبط التضخم من 13 بالمائة إلى 5 بالمائة.
لقد تم إنقاذ بريطانيا من المأزق الذي فرض عليها طلب مساعدة صندوق النقد الدولي، وصعدت بريطانيا ثانية لمصاف الدول الصناعية المتقدمة المتطورة وإن لم تصل للمستوى الألماني. ولعل هذه السياسة هي أيضا ما طبقها ريغان لمعالجة الأزمة الاقتصادية الأميركية فحقق نجاحات كبرى.
طبعا، كان ثمن العملية الجراحية البريطانية هذه باهظا للكثيرين، ولثاتشر شخصيا حيث تدنت شعبيتها في البداية لأدنى مستوى، ولكنها مع النتائج المحرزة راحت تتصاعد باستمرار.
دوليا، كانت في مقدمة زعماء الغرب في قراءة أفكار ومشروع غورباتشيف. ودعت ريغان والآخرين لتشجيعه. وعربيا، يذكرنا الكاتب عبد الفتاح طوقان بدورها في إنقاذ العرش الهاشمي الأردني من مشروع ريغان الذي كان يرى استبدال النظام الأردني، فعارضته وأقنعته بموقفها. كما ينسب لها حث بوش الأب على عدم التراخي مع غزو الكويت. وقد وافقت على أن تستخدم الولايات المتحدة قواعدها البريطانية لتوجيه ضربة لمقر القذافي على أثر عملية الطائرة لوكربي. ومعروف أن تلك الضربة جعلت القذافي يسلم الأسلحة المحرمة ويعطي تعويضات للضحايا ويحاول التقرب للغرب. وهذه مواقف تعاكس سياسة اليد الممدودة دائما لأوباما!
أيا كان السجال والخلاف حول سياسات مرغريت ثاتشر، وحول شخصيتها كامرأة عنيدة ومتصلبة، فإن ما لا ينكر شجاعتها الأدبية والسياسية، وتجنب المراوغة والازدواجية، ورفض الركض وراء شعبية ديماغوغية، وإرادة سياسية قوية تنفذ ما تعلن عنه مسبقا. وهذا طراز نادر بين ساسة اليوم. كما أن تقييمها إيجابيا لا يعني أن كل سياساتها قدوة. فالمهم هو الظرف ومراعاة تباين الأوضاع. فمثلا إنه عندما انفجرت الأزمة المالية الأميركية زمن بوش الابن، فإنه لم يتردد عن تطبيق درجة من الكنزية، أي تدخل الدولة في عالم المال وضبطه. وهو ما سار عليه اوباما أيضا. ولكن سياساتها ومسيرتها تعطي دروسا بليغة لدول الاتحاد الأوروبي اليوم التي تعاني من أزمات حادة جدا، ولاسيما بين منظومة اليورو، ومنها فرنسا. فلمعالجة هذه الأزمات لابد من جرعات ثاتشرية، كالتقشف الحكومي ومعالجة الديون والعجز والإصلاحات البنوية والإنعاش الصناعي وتشجيع الرساميل لخلق الأعمال، بدلا من تصعيد الضرائب وخلق وظائف لا رصيد ماليا لها، كما يفعل الاشتراكي الفرنسي الحاكم. ويبدو أن كاميرون صار يطبق درجة واضحة من الثاتشرية داخليا، وكذلك في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي. ومعلوم أن توني بلير، الزعيم العمالي الذي خلفها، لم يعد النظر في الإجراءات الأهم التي اتخذتها، بحيث اعتبر المراقبون أنه جاء بعمالية جديدة لبرالية. وقد سار على مذهبها في السياسة الخارجية بجعل التحالف مع واشنطن الركن الأساسي في تلك السياسة. وبمناسبة رحيلها أشاد بها كثيرا، وقال إنها كانت تساعده وهو رئيس للوزراء.
كما أن بإمكان مسيرة الراحلة البريطانية أن تعطي دروسا بليغة لاوباما في كيفية التعامل مع قوى التطرف والإرهاب وأنظمة العدوان، ككوريا الشمالية ونظام الفقيه وبشار الأسد وطالبان وحليفتها القاعدة- ونعني اعتقادها بأن الردع الحازم هو السبيل الوحيد لوقف هذه الجهات عند حدها. وها هي كوريا الشمالية تهدد الولايات المتحدة نفسها بحرب نووية بعد سنوات من محاولات أوباما تغيير أو تحييد نهج حكامها بالدبلوماسية، بما في ذلك إرسال بيل كلينتون مبعوثا لزعماء كوريا الشمالية خلال ولايته الأولى. إن الأنظمة المارقة والمغامرة، التي تتحدى المجتمع الدولي، ترى في سياسة اليد الممدودة واللهاث وراء تسويات دبلوماسية ملغومة ضعفا لا غير تستغله للمزيد من التمدد والتحدي والابتزاز، كما تفعل كوريا الشمالية والنظام الإيراني.