كتب الأستاذ عبد الرحمن الراشد مؤخرا مقالا بعنوان quot; ثقافة التقهقر باسم التقدمquot;، معالجا ظاهرة التراجع الاجتماعي والثقافي في البلدان العربية مقارنة بعقود سابقة من الزمن. ويقول مثلا إن الرياض، المحافظة جدا، كانت قبل ثلاثة عقود أكثر تسامحا، وفيها مسارح وسينما وفرق موسيقية عسكرية في الشوارع، وأعيادها حفلات، ألخ. هذا ناهيكم عما كانت عليه المدن المتقدمة كالقاهرة والكويت وبغداد، التي كان في شارع رشيدها حتى مكتب لشركة quot; مترو غولدينquot;.

أذكر أنني كتبت قبل أحد عشر عاما مقالا مسهبا عن أزمة الفكر والثقافة العربيين، وتراجعهما ليس فقط بالنسبة للحياة الثقافية والفكرية المتميزة في العالم، بل حتى بالنسبة لما كانت عليه الأحوال العربية في الثلاثينات وما بعدها. ومن لا يذكر مصر بأعلام الفكر والفن والأدب والشعر والسينما والمسرح، وبالانفتاح الاجتماعي، و الطفرة في حقوق المرأة. وهكذا عن لبنان والكويت والعراق وتونس وغيرها. واليوم ، تتقهقر الأوضاع الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية في دول ما يسمى بالربيع العربي؛ ففي تونس مطاردة للفنون والإبداع وحقوق المرأة. والحالة في مصر أكثر بشاعة وتقهقرا، ومن ذلك دفن البلدوزرات في الإسكندرية لسوق الكتب والحملة على عادل إمام، وانفلات السلفيين وحماتهم من إخوان المرشد الفقيه.
ذات مرة، انتقدني صديق عزيز على حنيني أحيانا للعهد الملكي وبغداد ذلك الزمان، قائلا باستغراب:quot; وكيف تحن لعهد سجنت فيه لمدة عشر سنواتquot;. وصديق آخر يلومني من وقت لآخر على مواصلة ذكر اسم عبد الكريم قاسم وتمجيد خصائصه ومزاياه الإنسانية والوطنية برغم كل ما حدث من صراعات دموية في ذلك العهد.
الواقع، أنني أحن إلى ما كان يسود مجتمعنا نسبيا من روح المواطنة والتسامح بين العروق والمذاهب والأديان، وذلك بصرف النظر عن شرور الإقطاع ومآسي الفلاحين واستبداد فريق من الحكام في مقدمتهم نوري السعيد. نعم، أحن لأيام كانت لنا فيها بدور وشموس بشرية تشع، وحياة اجتماعية منفتحة، وسينمات ومسارح وكليات متقدمة، وحركة نسائية صاعدة وجريئة. أحن لعهد ، وبرغم مآسيه وصفحاته القاتمة، ظهر فيه أمثال علي الوردي والسياب والجواهري والرصافي وجعفر الخليلي وذو النون أيوب وعبد الجليل طاهر وجواد سليم وزملاؤه الأفذاذ في الرسم والنحت، ومحي الدين حيدر وسلمان شكر والأخوان جميل ومنير بشير، في الموسيقى، وغير هؤلاء جميعا وفي مخلف الميادين. ولا ننسى سوق السراي بالمكتبات العامرة. وصرنا اليوم والموسيقى والغناء محظوران، وسوق الكتب عرضة للهجوم، والسينمات أطلال في أطلال.
منذ العشرينات، وكان المجتمع خارجا للتو من ظلمات العهد العثماني، نجد بدايات حركة نسائية نشيطة، ومجلة نسائية تصدرها بولينا حسون تطالب بالحقوق السياسية للمرأة. وتطورت الحركة لتظهر نساء مبرزات في مختلف مناحي الحياة العراقية، شعرا ورسما ومحاماة وقضاء وطبا ومربيات. أول طبية عراقية كانت الأرمنية نستيان، التي تخرجت من كلية الطب عام 1939، وأول طبيبة صابئية مندائية هي سلوى عبد الله مسلم، التي تخرجت عام 1956. وأول محامية أمينة الرحال عام 1943. ودخلت المرأة معترك الحياة السياسية مع مطلع الأربعينيات. ومن لا يعرف الشاعرات نازك الملائكة ورباب الكاظمي ولميعة عمارة وعاتكة الخزرجي وغيرهن، والأديبة ديزي الأمير، والقاضية زكية إسماعيل حقي، والرسامة نزيهة سليم، وغيرهن، وغيرهن. ومن لا يذكر العالم عبد الجبار عبد الله الصابئي المندائي، الذي اختاره عبد الكريم قاسم كأول رئيس لجامعة بغداد، ونزيهة الدليمي أول وزيرة لا في العراق وحسب، بل، وعلى النطاق العربي كله. وأضيف انه، حتى في عهد عبد الرحمن عارف، كانت المسرحيات والأغاني جميلة ومبدعة، وشعراء الستينات يحلقون بالشعر إبداعا ؛ وهكذا، وهكذا.
إلى تلك الأيام التي فاتت أحن كثيرا، وأرثي أوضاع اليوم التي تقهقرت في كل النواحي، فتراجع مبدأ المواطنة وانتعشت الولاءات الفرعية القوقعية، وتحولت السياسة لمحاصصات طائفية وعرقية، ودخلت البرلمان العتيد نساء يبشرن بان الرجال قوامون على النساء. إنها أيام تهاجم فيها أسواق الكتب، وتجتث أشجار شارع أبي نؤاس، وتستفحل الأمية الثقافية والسياسية لصالح أشباه الأميين ومزوري الشهادات والفاسدين.
نعم، ونعم، كانت في العراق شموس وبدور ثقافية وفنية وفكرية واجتماعية وعلمية، وصرنا اليوم في ظلمات الإسلام السياسي، والسلفيين من مليشيات الموت والطائفية والتخلف. وهذا أيضا ما صار نصيب quot; ثورات الربيع العربيquot;- أي التقهقر للوراء، بالعكس من بقية الأسرة البشرية. فمن صعدوا ليحكموا أرجعونا للوراء، ويتصرفون وكأن السلطة تبيح لهم اجتثاث الثقافة والفنون والفكر المتنور والحريات العامة والشخصية.