يقول البعض إن الوضع في العراق هو الأخطر من بين كل بلدان المنطقة العربية، وحتى مايبدو من دمار شامل حلّ بالأرض السورية وبآمال شعبها في الحرية، لا يرقى إلى المخاوف الماثلة مما يمكن أن يحدث في العراق. يستند هذا الرأي إلى أمرين: الأول يتعلق بواقع الخوف من إيران والنظر إلى سياستها بشكل آحادي، يهمل جانب المصالح والمكانة التاريخية لها، ويركّز على الإشتراك في المذهب بين النسبة الأكبر من شعبها وشيعة العراق. الأمر الثاني هو الباعث القومي، وبتعبير أوضح عقدة العروبيين من مسألة تلبية حقوق القوميات الأخرى، الذي كان من نتائجها اعتماد العراق شكل النظام الفيدرالي، وهذا كما يرى المتخوفون من العراق يحمل تهديداً لتجربة الدولة المركزية في البلاد العربية. ولكن لدى الإستماع إلى خطاب وزير الدفاع العراقي بالوكالة، سعدون الدليمي، نكتشف إن هناك مصدراً للخطر أشدّ من إيران، فقد هاجم تركيا، متهماً إيّاها بدعم الإعتصامات في مدن عراقية، قائلاً: quot;كإنما الأنبار والموصل وسامراء امتداد للسلطنة العثمانية...quot; مضيفاً: quot;العار كل العار والذلّة لتلك الساحات التي تفتح أبوابها لإسطنبول أو أي بلد آخر ( ربما يقصد بالآخر دولة قطر، حيث تسربت أخبار سابقة عن احتمال وصول الشيخ القرضاوي إلى هناك!!). وحسب وصف الدليمي فإن quot; ساحات الإعتصام باتت حاضنة للإرهابيين والقتلة quot; وإن هؤلاء quot; قتلوا الجنود في بوابة ساحة الإعتصام ، ولم يكتفوا بذلك بل قطعوا أجسادهم بالسيوف والخناجر داخل الساحة.. quot; ، لذلك يمكن اعتبار تركيا طرفاً في صناعة الإرهاب، أو أنها تحقق مصالح كبيرة من خلال استمراره وإضعاف الدولة العراقية. وفي توضيح مهم يقول الوزير: quot; كانت وزارة الدفاع قد بدأت بنقل معدات وجهد عسكري إلى محافظة الأنبار بعد توفر معلومات عن سدّ سوري يمكن أن ينهار، وأول المتضررين هم أهل الأنبار، لكن القتلة قاموا بمواجهة السيارات وحرقها وقتل سائقيها quot; مركزاً على دورquot;الأجندات الخارجية التي تحرك ساحات الإعتصام، ومن يدافع عنها من السياسيين quot;.
بالطبع هذا لا يعني تبرئة إيران، فهي متوغلة في العراق وقد حققت أقصى استفادة من انهيار الجيش، والجفاء العربي في التعامل مع الوضع السياسي الجديد بعد الإحتلال الأميركي، الذي تصدّره المعارضون السابقون من الشيعة والكرد، والذين سبق أن أشار إليهم حسني مبارك بقوله: أنهم المستفيدون الوحيدون من الإطاحة بصدّام، متجاهلاً عراقيتهم. كذلك لا يمكن إغفال الدعم الإيراني لبعض العصابات الإرهابية، فهي إلى جانب جارتها تركيا تستثمر ضعف الحال في العراق، ولكن بما أن الحديث قد فاض في الصحافة العربية عن خطورة إيران، فلابد من توضيح خطورة تركيا أيضاً، وفي رأيي أنها أشدّ ضرراً على العرب، ذلك أن معظم الدول العربية والإسلامية ذات مرجعية مذهبية سنّية، وقادتها السياسيون والدينيون متوجسون أساساً من التمدد الشيعي المزعوم في بلدانهم، الذي طالما يجري التحذير منه بشكل مبالغ به، وبأن إيران تشجع عليه وترعاه. والأمر مختلف بالنسبة لتركيا ذات الأكثرية السنّية، فالأبواب مفتوحة لها كي تدعم من تشاء سواء كانوا إخواناً مسلمين أو سلفيين أو إرهابيين كجماعة النصرة في سوريا، ومثيلاتها في العراق. إن خطر الإسلام السياسي بصوره المختلفة، quot;معتدلةquot; ومتشددة، حقيقة ماثلة في مصر وسوريا وتونس، على سبيل المثال، كما أن طموح الإخوان المسلمين وصل إلى محاولات قلب الأوضاع في دولة الإمارات العربية، وهذا ما يهدد أو يصادر أي أمل بتطوير مجتمعاتنا باتجاه الديمقراطية، فالذين يرفعون شعار quot;الحكم للهquot; (أي لهم) لايمكن أن يبنوا دولة مدنية مهما أطلقوا من وعود.
إن من يرى في العراق مصدراً للخطر الأكبر، بسبب حكم رئيس الوزراء نوري المالكي وتحالفاته، عليه أن يتذكر كيف ساهمت تركيا في تأزيم الوضع في العراق منذ أن استقبلت نائب الرئيس الهارب والمحكوم عليه بالإعدام، طارق الهاشمي، لتورطه بجرائم عدّة، وكيف شجعّت الخلاف بين إقليم كردستان والحكومة المركزية، ولينظر اليوم ايضاً كيف تسعى القيادة التركية لترحيل مشاكلها مع حزب العمال الكردستاني إلى شمال العراق quot;الفيدراليquot;، تريد لمسلحي هذا الحزب أن يقيموا في الجانب العراقي من الحدود، كي تواصل قصفها للقرى الكردية وتتوغل فيها كما كانت تفعل منذ اتفاقها مع صدّام حسين الذي سمح لقواتها بمطاردة قوات أوجلان على الأرض العراقية، وهذا يكفل لها إحكام سيطرتها على قيادة الإقليم، والتحكم بعلاقاتها مع المركز. فضلاً عن ذلك فإن تركيا ساهمت بشكل فعّال في تمزيق سوريا، بنفوذها وحدودها، وبالمال القطري.
اليوم يجد كل من يتابع بحيادية إن الوضع في سوريا هو الأخطر، فالحرب هناك مرشحة للإمتداد إلى لبنان، والحالة الثورية بمطالبها العادلة في الحرية والكرامة، أَجهضت بالمال العربي لتتحول إلى حرب مذهبية، وما هدم المقامات إلا إشارات خبيثة لتأجيج نيران الطائفية، وتحفيز عواطف الناس البسطاء للإنخراط فيها، والنتيجة إن إسرائيل أصبحت على الأبواب بعد هجومها العسكري على مواقع سورية. وفي مصر لا يقلّ الأمر سوءاً، فجزيرة سيناء ملغومة بالإرهابيين الذين لا يستبعد أن ينسقوا مع جهات في حكومة حماس في غزة، بخاصة بعد كشف القضاء المصري عن تورط حماس باغتيال الجنود المصريين على الحدود، وهنا أيضاً ستواجه مصر إسرائيل، فكيف تسلم وهي المنهكة بتردي اقتصادها وأمنها، وضعف حكومتها، وأزماتها الدينية؟.
إن الأوضاع في العراق على الرغم من صعوبتها تتجه للحل، بدليل الإتفاق الأخير بين الحكومة المركزية وقيادة الإقليم، الذي أفضى إلى عودة الوزراء الكرد إلى عملهم في مجلس الوزراء، كذلك فإن العمل على تنفيذ مطالب المحتجين في الأنبار وصلاح الدين والموصل، مازال مستمراً وينتظر أن يحقق نتائج جيدة، كما أن الإنتخابات المحلية جرت بسلام نسبي مع كل ما تخللها من عمليات اغتيال وتفجير. ولكن هذا لن يرضي تركيا وقطر، والمرتبطين بمخططاتهما من سياسيين عراقيين، يؤكد هذا المعنى، تصريح الدكتور فارس إبراهيم، أحد قياديي تشكيلات quot; أبناء العراق quot;، الذين يدعمون القوات الحكومية لإعادة الامن في محافظة الأنبار، فقد أشار إلى quot; معلومات وصلت إلى الحكومة بأن قادة المظاهرات، لا سيما السياسيين منهم مثل رافع العيساوي(وزير مالية سابق عن القائمة العراقية) وأحمد العلواني (نائب عن العراقية)، لا يتمنون أن تقدم الحكومة على تنفيذ المطالب، بل أنهم أبلغواالمقربين منهم، أنهم حتى لو نفذت الحكومة كل المطالب سوف يتقدمون بأخرى، وصولاً إلى تشكيل إقليم سنّي أو وصولاً إلى الإنتخابات المقبلة (التشريعية) quot; (تصريحه لجريدة الشرق الأوسط ).
وبصرف النظر عن شخصية هذا المتحدث، فإن إشارته إلى quot;ألإقليم السنّيquot; تحمل دلالة خطيرة، وتكشف من جديد عيوب الدستور العراقي، الذي كان يفترض به أن ينص على أن العراق دولة، العرب والكرد فيها يجمعهم نظام فيدرالي، يكفل نوعاً من اللامركزية الإدارية للمحافظات في القسم العربي، ذلك أن الفيدرالية في عموم العراق لن تساعد في تماسك الدولة العراقية، وهي تفتح الأبواب لتأسيس أقاليم مذهبية، يتخندق فيها الطائفيون من أحزاب إسلامية مختلفة، تقف وراءها أما تركيا أو إيران، ومن حظ البلاد إن المحاولات السابقة لتأسيس إقليم شيعي في الجنوب، لم تنجح، مع كا ما بذل من جهود لدعمها. وبعد فإن مسمى الفيدرالية أصلاً لا ينطبق على واقع الحال في العراق، الذي الذي يشير إلى شبه استقلال لحكومة كردستان عن المركز منذ بداية التسعينيات، حين انسحبت قوات صدّام حسين من الشمال. وأنا أتمنى لو تم التصريح بهذا الإستقلال رسمياً، لإرضاء مطامح الشعب الكردي المشروعة، ولكن دون ذلك عنصرية القيادتين في تركيا وإيران، وحتى في سوريا تاريخياً، فكلنا نذكر إن الخطوة الأولى التي أعلن عنها الرئيس بشار الأسد لاحتواء الإنتفاضة في بدايتها، أنه أصدر قرارات بمنح الجنسية لآلاف من الكرد، مضى عليهم زمنا طويلاً محرومين من حق المواطنة. لكل ذلك فإن مستقبل الكرد هو في تعاون قيادات الحزبين الرئيسين الحاكمين ( الديمقراطي والإتحاد الوطني) في الإقليم مع الحكومة، كما أن لا مستقبل للشيعة والسنًة إلا بالتضامن معاً لبناء العراق، ولن ينجحوا ما لم يقضوا على الإرهابيين من الجانبين، ويغلقوا ما استطاعوا قنوات التدخل الخارجي.