السياسة لعبة لتنظيم واستغلال واستثمار الممكنات يمكن للافراد والجماعات والشعوب والأمم خوضها بأشكال متنوعة ومتعددة، ومن يتقنها بحرفية يخرج منها منتصرا، ومن لا يتقنها يخرج منها مهزوما، والمجتمعات المتقدمة والنامية استطاعت ان ترسم لهذه اللعبة عنوانا واطارا وتشريعا باسم quot;الدستورquot; لتنظيم ادارة الدولة والمجتمع على أسس معينة مؤسساتية مدنية او سلطوية مستبدة.
ودستور العراق الجديد يمكن اعتباره من الدساتير المتطورة في منطقة الشرق الاوسط وعلى مستوى العالمين الاسلامي والنامي، وقد سجل سبقا تاريخيا من خلال تدوين بناء الدولة المدنية في العراق العليل بسبب الطائفية والارهاب على اساس النظام الديمقراطي البرلماني التعددي الاتحادي وعلى اساس التناول السلمي لسلطة الشعب، وقد خرج الدستور العراقي الدائم المنظم للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للعراقيين الى النور بعد موافقة الأغلبية بنسبة ثمانين بالمئة عليها عام الفين وخمسة.
ومن ضمن المنجزات التاريخية للدستور الدائم في العهد الجديد بعد سقوط صنم الاستبداد هو الاعتراف القانوني بكيان اقليم كردستان حسب واقع الامر المفروض بالنضال الطويل والعادل للشعب الكردستاني، ولكن بالرغم من واقع الاقليم المعترف به الا انه لم يكن يملك دستورا، وكل ما كان سائرا فيه كان حسب قوانين صادرة من برلمان كردستان الذي انطلق الى الوجود السياسي في الواقع الكردي عام 1992 بفعل انتخابات اشترك فيها اغلب الاحزاب والقيادات الكردستانية.
ولهذا بقي واقع الاقليم التشريعي لسنوات يعاني من نقص دستور مدون حسب موافقة الشعب لفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية عن بعضها، الا ان اعد مسودة للدستور في سنة الفين وسبعة من قبل لجنة خاصة في برلمان الاقليم ولكنه لم يطرح للاستفاء لاسباب سياسية وحزبية وداخلية وخارجية، ولكن الانطباع الذي تم استنتاجه من قراءة المسودة بعد خروجه من بودقة البرلمان لم يكن ايجابيا لان بعض موادها اعد كتفصال الخياط على بدلة شخص معين وهو رئيس الاقليم ويبدو في حينه ان الحزب الديمقراطي الكردستاني بالاتفاق مع اعضاء من حزب الطالباني قد تمكنوا من امرار مواد في المسودة لصالحه ولصالح رئيسه المكلف برئاسة الاقليم، ومازال هذه المواد باقية وهي تتعلق بالنظام السياسي وبشروط ترشيح المرشح لرئاسة الاقليم والصلاحيات الممنوحة للرئيس.
وقبل فترة تسبب رئيس الاقليم في ظهور أزمة سياسية وقانونية واعلامية بخصوص مسودة دستور كردستان العراق من خلال اصراره لطرح المسودة للاستفتاء بدون اجراء تعديلات عليها، وقد جوبهت هذه الدعوة بالرفض الشديد من قبل أغلب القوى السياسية ما عدا الحزب الديمقراطي الحاكم المنفرد في اربيل ودهوك، واشتدت الأزمة عندما اصر الرئيس البرزاني في كلمة حزبية له على اجراء الاستفتاء واجراء التعديلات بعدها، ويبدو ان اصراره لم يكن منطلقا من مصلحة الدستور وانما لغاية مكشوفة كانت وهي اعادة ترشيحه لولاية أخرى لرئاسة الاقليم بعد نفاذ الطرق القانونية لاعادة انتخابه لفترة ثالثة.
ويبدو ان الموقف الحاسم والحازم الذي اتخذه كوسرت رسول علي نائب جلال الطالباني في زعامة الاتحاد الوطني الكردستاني ونائب رئيس الاقليم كان له الدور الفاعل في حسم قضية المسودة من خلال تأكيده ومطالبته باعادة مدونة الدستور الى البرلمان لاجراء التعديلات عليها قبل طرحها للاستفتاء، وبهذا الموقف حسم حزب الطالباني مصير المسودة لصالح الأغلبية المعارضة وساعد على اخراج الاقليم من أزمة خطيرة كادت ان تنفجر بين الاطراف السياسية في ليلة وضحاها حول وثيقة الدستور ومحتوياتها المختلف عليها.
وبعد اتضاح المواقف تصرف مسعود البرزاني رئيس الاقليم بحكمة كردية وقرر الرضوخ للرأي العام المطلب باعادة مسودة الدستور الى البرلمان وبالفعل تم اعادتها من قبله مرفقا بها جميع الاراء والملاحظات التي وصلته من قبل أغلب الاحزاب السياسية الكردستانية ومنظمات المجتمع المدني لدراستها والخروج بموقف عام يرضي جميع الاطراف في البرلمان، ومازالت المسودة والاراء الملحقة بها تحت الدراسة والمناقشة لترتيب موقف كردي موحد تجاه المسودة قبل طرحها لاستفتاء الشعب الكردستاني عليها.
ولغرض ازالة قضية مسودة دستور اقليم كردستان العراق من ابعادها الاختلافية التي قد تحصل في البرلمان بسبب تباين مواقف الاطراف السياسية والنيابية تجاهها، نتقدم بخارطة طريق بدافع احتواء الازمة وفتح الطريق وتهيئة الوقت اللازم لاجراء التعديلات عليها بسبب أهمية موادها ومحتوياتها للكرد ولمستقبل الاقليم، وتتلخص خارطة الطريق بما يلي:
1. تأجيل انتخابات رئاسة الاقليم سنة واحدة وتمديد فترة رئاسة اقليم كردستان الحالية لسنة اضافية لحين اجراء الانتخابات في السنة القادمة.
2. تحديد فترة لا يقل عن نصف سنة لاجراء التعديلات على مسودة الدستور والاعداد لطرحها على الاستفتاء من قبل المفوضية المستقلة للانتخابات في النصف الثاني من السنة قبل موعد اجراء انتخابات الرئاسة.
3. تدعيم الموقف التاريخي المسؤول لنائب رئيس الاقليم باعادة المسودة الى البرلمان بموقف اخر اكثر حاجة وضرورة على المستوى الوطني العام، وهو عدم السماح باجراء الاستفتاء على مسودة الدستور الا بعد تعديلها من قبل البرلمان لترتيب موقفا موحدا للبيت الكردي حول دستور الاقليم.
في الختام نود ان تكون هذه الخارطة طريقا مناسبا لاخراج مسودة الدستور من تعقيداتها المتوقعة على الساحة السياسية الكردستانية للوصول الى اتفاق يرضي الجميع القوائم النيابية في برلمان كردستان العراق، ونأمل ان ينعم الاقليم بدستور مدني متطور ومتقدم في غضون سنة واحدة لارساء مرجعية دستورية دائمة لجميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الكيان المنعم بالازدهار والامن والسلام بالرغم من تفشي الفساد الرهيب في مفاصله الحكومية والحزبية والاقتصادية والتجارية والحياتية وحتى الصحية، وخير ما نختم به مقالنا هذا قول الله تعالى quot; فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِquot;.
اربيل ndash; كردستان العراق