وصفت صحيفة الجارديان البريطانية مايحدث في مصر بأنه ثورة ثانية فعلها المصريون خلال سنتين. على العكس من ذلك، وصفت صحيفة الاندبيندنت البريطانية أيضا ً مايحدث بأنه انقلاب عسكري، وفي محتوى كل صحيفة تجد الكثير من التقارير بوصف مايحدث بأنه ثورة تارة وتارة أخرى انقلاب أو ربما تدخل عسكري، حتى أن الكثير من الدول الغربية توجست خيفة من التدخل العسكري في الشأن السياسي بإقالة رئيس منتخب بشكل ديمقراطي. كيف يمكن فهم ماحدث بين الثلاثين من يونيو والثالث من يوليو من خروج الملايين من المصريين من كل طبقات المجتمع وأدياه وطوائفه وكل الأعمار ومن كلا الجنسين في أضخم مظاهرة في العصر الحديث وتدخل الجيش في عزل أول رئيس منتخب من قبل الشعب المصري. هل هي ثورة أسقطت شرعية الرئيس الذي ذكرها عشرات المرات في خطابه أم هو انقلاب عسكري على الشرعية التي أوصلت الرئيس إلى دفة الحكم؟

تجسدت المظاهرات المليونية للمعارضة بشعار واحد هو: أرحل، بينما رفع مؤيدو الرئيس المصري شعار: الشرعية التي ذكرها الرئيس المقال عشرات المرات في خطابه. ولكن، ماهي الشرعية وكيف نفهما وهي التي تبرر تشبث محمد مرسي بكرسي الرئاسة؟ يقول فلاسفة السياسة أن الشرعية السياسية هي القبول الشعبي لسلطة القانون والسلطة السياسية المتمثلة بالنظام السياسي. ولكن، يوجد هناك فهمان لهذا التعريف، فالأول هو فهم وصفي ويلخصه ماكس فيبر بالقبول الشعبي من خلال صناديق الإقتراع في النظم الديمقراطية، أو الأعراف والتقاليد في النظم التقليدية كالأسر الحاكمة والملوك، أو القبول الجماهيري لشخصية كارزمية. أما التعريف الثاني وهو تعريف قيمي أو معياري أخلاقي والذي يذهب أليه جون لوك، جون رولز، ويرغان هابيرماس بأن الشرعية ليست فقط القبول الشعبي فحسب بل يضاف لها تقييم الأداء للنظام السياسي والذي يتم بموجبه أقرار استمرار الشرعية لمن أعطيت له. فبينما يعبر عن الشرعية في شقها الأول بالقبول العلني عبر صناديق الإقتراع، يعبر عنها في الشق الثاني بشكل ضمني من خلال التعبير الصامت لأداء النظام السياسي إذ تسقط به الشرعية الممنوحة إذا ما كان تقييم الأداء سالبا ً. ولكن، كيف يمكن معرفة أن الأداء الحكومي سالبا ً؟ يقول المفسرون السياسيون أن الأداء الحكومي يكون سالبا ً عندما يتم خرق القانون الطبيعي في الدولة وهو تقييد الحريات السياسية وعدم المساواة في أمتلاك السلطة السياسية على حد جون لوك، أما جون رولز فقد طورها بأنها انتهاك لفكرة المساواة في الحقوق المدنية. وعلى هذا الأساس لايكون هتلر رئيسا ً شرعياً ولا موسيليني بمجر أنهما جاءا بطريقة ديمقراطية، فأدائهم العنصري المتمثل بالفاشية والنازية كفيل بإسقاط الشرعية عنهم.

ماذا فعل الأخوان المسلمون في عام واحد؟ نعم، لقد دخل الرئيس المقال مرسي في صراعات قانونية جعلته يكتب أعلانا ً دستوريا ً يمنحه صلاحيات استثنائية ومن ثم تراجع عنه بإعلان ثان، شكلوا الجمعية التأسيسية مرتين والتي كانت غالبيتها من الإسلاميين بعد إنسحاب العلمانيين منها حيث وضعوا دستورا ً لم يقبله الجميع من السياسيين بالرغم من تمريره بإستفتاء شعبي، إثارة النعرة الطائفية التي أنتهت بوصف الشيعة بالروافض والأنجاس وهم أقلية في مصر مما أدى لمقتل حسن شحاته وأربعة من رفاقه بطريقة بشعة، إعلان تأييد الجهاد في سوريا بعد قطع العلاقات مع سوريا في خطوة بررها الرئيس المقال مرسي في خطابه الأخير بأنه جهاد في الخارج وليس الداخل وكأنه خليفة للمسلمين وليس رئيس لدولة كبيرة لها دستور وقوانين وعليه الإلتزام بهما. تخبط في السياسة الخارجية من زيارة لطهران والصين وروسيا في الوقت الذي أصطف بجانب الولايات المتحدة بقطع العلاقات مع سوريا. لقد أراد الأخوان تغيير وجه مصر من العلمانية إلى الدينية بتشريعات بدأت تدريجيا ً وخطاب طائفي عنيف سيطر على أغلب القنوات الدينية. وعلى حد قول محمد حسنين هيكل، كان الأخوان مستعدون لخطة يعتقلون بها كل رموز المعارضة لكن السيسي فاجئ الجميع بمهلة اليومين وفاجئهم أكثر هو خروج المليونة في الثلاثين من يونيو حيث جعل الأخوان يفكرون كثيرا ً قبل أي خطوة بإقالة السيسي او أي عمل آخر ضد المعارضة.

إذن، سقطت شرعية الرئيس المقال مرسي فهل هي الشرعية الثورية التي تحل محلها؟ في الحقيقة لاتوجد شرعية ثورية إلا في فكر أقصى اليسار الذي يؤمن بالثورة كسبيل للإستيلاء على السطلة، ولكن، نفسه الرئيس مرسي صار رئيسا بالشرعية الثورية التي أنتجت شرعية دستورية، فمن حق الآخرين أن يقيلوه بنفس الطريقة التي جاء بها! إذن بين الشرعية الثورية الرومانسية التي طبعت المرحلة الراهنة والشرعية الدستورية الواقعية التي لم تتأهل لتحول مصطلح الشرعية إلى مؤسسات شرعية وليس مجرد سلطة كما كان يفهما الرئيس المقال مرسي فقد كان الجيش المصري أكثر واقعية من الجميع!

هل نسمي ماقام به الجيش المصري انقلابا ً على الشرعية؟ بالتأكيد لا! فالانقلاب هو استيلاء الجيش على السلطة ولم يفعلها الجيش المصري، والانقلاب هو الاستيلاء على السلطة ومن ثم إخراج الجماهير لتأييد سلطة الجيش ولم يحدث هذا في مصر، فقد خرجت الجماهير المليونية الغفيرة وبعدها تدخل الجيش للحيلولة دون حصول أي أصطدام بين معسكري المتظاهرين. لقد تعلم الجيش درسا ً من الثورة الأولى أن الجماهير لايمكن كبحها بالقوة العسكرية مهما كانت مسلحة. لايمكن أن يكون انقلابا ً أيضا ً وقد أنذر بإعطاء مهلة أسبوع ومن ثم يومين لكافة الأطراف إذا ماعرفنا بأن الانقلابات عادة تحاك في الغرف الظلماء وتخرج ببيان رقم واحد للقوات المسلحة في صبيحة اليوم التالي بعد أن تطوق الدبابات القصر الرئاسي ووزارة الدفاع ومبنى الإذاعة والتلفزيون. إذا ً، مايمكن أن نسمي حركة الجيش المصري؟ نعم، أنه تدخل وليس انقلاب، ولكن، رغم أنه تدخل في مصلحة الجماهير في تحقيق إرادتها تبقى تلك الحركة سابقة خطيرة في العمل السياسي يجب الحيلولة دون تكرارها بضبطها دستوريا ً، فعواقبها ستكون وخيمة على المدى البعيد.

أذن، ماذا يمكن أن نسمي التظاهرات المليونية في الثلاثين من يونيو في مصر! نعم، إنها ثورة تصحيحية. فقد كانت الثورة الأولى قبل سنتين من أجل تصحيح أخطاء الماضي بإزالة الدكتاتورية، أما الثورة الثانية فكانت لرسم صورة المستقبل برفض أسلمة الثورة التي لم تبدأ إسلامية لتنتهي إسلامية كما في إيران، لقد كانت الثورة الثانية لحسم كيف سيكون شكل الدولة والمجتمع المصريان في المستقبل. فالثورة بدأت مدنية ولكنها تحولت إلى إسلامية بحكم أن الإسلاميين أكثر تنظيما وإستعدادا ً لتولي مقاليد الأمور، لكن الثورة الثانية أعادت وعي الشعب المصري إلى فكرة الدولة المدنية الذي سيطبع وجه مصر وكل المنطقة إذا ماتمت على أكمل وجه.


[email protected]