أتوقّع أن تشهد تونس خلال الفترة القادمة ثورة ثانية، ستنطلق شرارتها أيضا من سيدي بوزيد و ستجد سندا شعبيا في ولايات الظلّ و سائر مدن بلادنا الكبرى، و سيكون شعارها الأساسي quot;إعادة الثورة المسروقة إلى أهلهاquot;، أمّا هدفها فلن يكون سوى تصحيح مسار ثورة 17 ديسمبر المجيدة، التي طالبت بquot;الشغل و الحرّية و الكرامة الوطنيةquot;، فوجدت نفسها توصل قوما إلى الحكم لهم هموم ثانية غير الهموم الشعبية، و يتصوّرون أن الثورة لم تكن سوى منّة من الله عليهم لتعويضهم عن السنوات التي قضوها في السجن أو المنفى بالتمكين لهم في الأرض و تيسير انتقامهم من خصومهم السابقين.
و لا اعتبر هذا التقدير من باب الرجم بالغيب أو التنبؤ معاذ الله، و لكننّي أومن بأنه جلّ وعلا قد وضع للاجتماع البشري سننا سار عليها، و أن المقدّّمات و الظروف المتشابهة عادة ما تفضي إلى نتائج متماهية و إن اختلفت ظروف الأحداث و طبائع الشعوب و تفاصيل الوقائع و مدد الإنجاز، فقد نجحت الثورة التونسية في سبعة و عشرين يوما، وقضت في مصر ثمانية عشرة يوما فقط، و دامت أكثر في ليبيا و اليمن، لكنها في سوريا عجزت تماما عن التحقّق، و الحال هذه فإن دورة الثورات التصحيحية قد انطلقت فعلا، بنهوض المصريين لإزالة غمّة quot;الإخوانquot; بعد سنة من اعتلائهم سدّة الرئاسة، و قد تكون المدّة أطول في تونس لكنها حتمية تشرف على الكشف عن وجهها.
و إذا عدنا لنيل العبرة لا غير، من الثورات الشعبية التي واكبتها البشرية خلال التاريخين الحديث و المعاصر، سنقف بجلاء على هذه الحقيقة التاريخية الصارخة التي تقول بأنه quot; لا بدّ لكل ثورة شعبية من ثورة ثانية تولد من رحمها لتصحّح مسارهاquot;، أي تحاول أن تعيدها إلى مرجعيتها التي انطلقت منها و كسبت لأجلها تأييد الشعب و مباركته، فلو تساءلنا مثلا عن حظوظ الثورة التونسية لو رفعت شعارات راشد الغنّوشي و حركة النهضة هل كان لها أن تنال الحظوة، فستكون الإجابة حتما بالنفي القاطع ذلك أن حظوظها في النجاح ساعتها منعدمة، أما و قد رفعت شعارات وطنية اجتماعية تنموية تحررّية فقد نالت هذه الحظوة، و سيكون لزاما بعدها تخيّل الطابع الذي ستكتسيه الثورة التصحيحية، و الذي سيكون بالضرورة طابعا اجتماعيا و تنمويا و تحررّيا أصيلا.
و تعلّمنا سير الثورات الفرنسية و البلشفية و الصينية و الإيرانية، حقائق عن الثورات الثانية التصحيحية التي أعقبت كل ثورة من هذه الثورات بحسب طبيعتها، فقد ظهر نابليون سنوات قليلة بعد الثورة الفرنسية التي أوصلت في بداياتها الطهوريين quot;اليعاقبةquot; إلى سدّة السلطة فجعلوها تأكل أبناءها، ليحقق عبر القانون المدني و حزمة الإصلاحات الإدارية و التشريعية شعارات الثورة في الأخوة و المساواة و الحرّية، و في الثورة البلشفية أعاد لينين و رفاقه المسار لصالح العمّال في أكتوبر 1917، بعد أن كادت البرجوازية تسرقها في أوائل السنة نفسها، و تمكّن ماو تسي تونغ من إرجاع الثورة الصينية إلى الفلاحين بعد حرب أهلية واجه فيها الجنرال الموالي للغرب شيانغ كاي تشيك طيلة ما يقارب السنتين من 1947 إلى 1949، و كذا فعل الإمام الخميني الذي اضطر إلى مواجهة بني صدر و حزب توده الشيوعي و كرّس في حركة تصحيحية وفقا لمرجعية الثورة المعلنة الطابع الإسلامي للجمهورية الناشئة.
و مثلما كانت ثورة 25 يناير 2011 المصرية ثورة شبابية وطنية ديمقراطية، فإن ثورتها الثانية، أي ثورة 30 يونيو 2013 كانت أيضا شبابية وطنية ديمقراطية، بل لقد كانت هذه الثورة أشد وضوحا في ارتباطها بمرجعيتها الواضحة و طبيعتها الأولى، مع فارق وحيد أنها كانت أكثر وعيا بالخبث الإخواني باعتبارها ليس فقط حركة احتجاجية على نظام مبارك الاستبدادي، بل هي فضلا عن ذلك حركة احتجاجية على عملية السرقة الإخوانية للثورة الأولى، على نحو بدت معه و كأنها ثورة إخوانية إسلامية و الحال أنها أبعد ما يكون عن ذلك.
و يشعر الشباب في سيدي بوزيد و القصرين و سليانة و الكاف و مدن الحوض المنجمي بغبن تاريخي لا يوصف، إذ بدت ثورة 17 ديسمبر التي عمّدوها بدمهم و كأنها تفجّرت ليعود الغنّوشي من لندن أو المرزوقي من باريس، أو حدثت لنناقش مواضيع من قبيل طول اللحى و لبس الجلابيب و الرقية الشرعية و الحجاب و النقاب و عذاب القبر و بول البعير و علاقة الدين بالدولة و عدم الترحّم على أب الاستقلال و باني الدولة المستقلّة و إماتة العلمانيين بغيظهم، فكل هذه الأمور لم تكن في وارد تفكير الشهيد البوعزيزي و لا في وارد تفكير كل من سار على درب الاقتصاص له من ظالميه، إنما كانت طموحات الشبيبة التونسية الثائرة طموحات وطنية ديمقراطية اجتماعية تنموية محضة، أبعد ما يكون عن أحلام تجّار الدين و دهاقنة السياسة و محترفي quot;السياسويةquot;.
و لن يطول سكوت هؤلاء الشباب على انحراف المسار و خيبة المسعى و مهازل الحكم الإخواني المتعاقبة، كما لن يطول وقوفه على الربوة لأنه صاحب الثورة الحقيقي، و لن يخشى سطوة حزب حاكم مبتدئ لم يتعلّم من دروس الأنظمة البائدة سوى أن الحكم يعدم الحاجة لكل صديق و يستعدي كل أخ و رفيق، فما كانت ترضى به الرعية في سابق العهد و الأوان لا تنطلي حيلته على الشبيبة.