المواقف الأميركية المتناقضة تجاه أحداث مصر ما بعد 30 يونيو, باتت أشبه باللألغاز المحيرة، لا يتوقف الأمر عند ما يجري في ميدان رابعة العدوية, الذي يحتشد فيه المطالبون بعودة الرئيس المعزول محمد مرسي, وهي عودة باتت بكل المقاييس بعيدة المنال, في ظل انهيار الصورة الذهنية للأخوان عند غالبية كاسحة من الشعب المصري ظلت تتوهم لزمن طويل، إن العدل لن يعود إلى البلاد إلا بعد تمكن قيادات تلك الجماعة من سدة الحكم. يصيب الموقف الاميركي المصريين بالدهشة, خصوصا وإن هذا الموقف يأتي في أعقاب عهدين سابقين إختار النظام فيهما الارتماء التام في أحضان البيت الأبيض, من غير أن يشعر المصريون أن نحو أربعين عاما من الود المصري الاميركي قد أسفرت عن أي تحسن في معيشة الناس, أو في محو الشعور الذي يساورهم في بعض الأحيان بالاهانة.

والآن وقد بات مرسي متهما، ليس بالكذب فقط على جماهير البسطاء, وانما بالعديد من التهم الأخرى, مثلما باتت جماعته تستميت لمنع إقصائها خارج المشهد, عبر ما يجري في رابعة, الذي يتم استغلاله لتحسين الموقف التفاوضي، وحماية بعض قيادات الجماعة المطلوب القبض عليهم، والمختبئين وسط جماهير غالبيتهم من فقراء جيء بهم من قراهم البعيدة.
في ظل هذا، تبعث متابعة المواقف الأميركية, على الحيرة, وتدعو إلى التساؤل عما تريده إدارة أوباما، التي لم تعترض على الإطاحة بحليفها مبارك، لصالح من بات كنزا استراتيجيا بديلا، اللهم إلا إذا كان الهدف هو إبقاء جذوات الاضطراب ملتهبة, وأن يبتعد الإستقرار عن مصر، على الأقل في تلك الفترة المرتبكة التي تعاني منها المنطقة العربية.
من هنا، فإن نظرة واحدة على المشهد الممتد من المحيط الهادر الى الخليح الثائر وفق ما كانت أدبيات الستينيات تسميه, سوف تكتشف عن إن تلك الاحلام القومية العريضة تحولت في أقل من نصف قرن, من السعي إلى بناء الدولة العربية الكبرى, الى محالة منع دول راسخة من السقوط مغشي عليها.
فالمتأمل للحال الذي باتت فيه عدد من دول المنطقة, يدرك أنها وصلت بالفعل الى وضع الدولة العليلة, التي بات عليها أن تخضع لجرعات مركزة من العلاج, لمدة لا يعلم أحد الى متى سوف تطول.
نفس الوضع يبدو أن الدولة المصرية باتت مرشحة للوقوع في براثنه, ومن خلال تلك الاشارات الملغزة التي ترسل بها الولايات المتحدة, وهي اشارات بالغة التناقض، لدرجة أن كل طرف من الطرفين المتواجهين على الساحة المصرية يفسرانها وكأنها لصالحه.
هذه الاشارات التي تقول مرة ان مرسي لم يكن ديمقراطيا, ثم تطالب في مرة أخرى باطلاق سراحه, ثم ترسل طائرات للجيش المصري, وبعدها ترسل بوارج الى سواحل مصر, والتي يهلل لها أتباع الرئيس المعزول, تعني أن هناك تشجيعا ضمنيا لأتباع الجماعة على الدخول في مواجهات مستمرة لا يعلم أحد متى يمكن أن تنتهي, وهي مواجهات سوف تساهم في اضعاف الدولة واستنزافها وجرها الى معارك جانبية, لن تصب في صالح المواطن المصري بأي حال من الأحوال, قدر ما ستساهم في تحويل الدولة الى كيان عليل, لن يكون مسموحا له في أي الأحوال إلا أن يظل يتخبط في أمراضه, دون أن يصل إلى حافة التعافي.
الان في لحظة تأمل، يمكن فهم الاسباب التي دفعت اسرائيل الى القول بأن مبارك كان كنزا استراتيجيا, وهي نفس الأسباب التي دفعت شيمون بيريز إلى الإشادة بمحمد مرسي واعتباره صديقا وفيا, ومخلصا لاسرائيل, وهي اقوال ساهمت في رفع درجة الغضب لدى الشعب المصري على كل من مبارك ومرسي, لكن ما الذي يدعو امريكا الى ارسال تلك الاشارات الغامضة والمتعمدة أيضا إلا إذا كانت الأمور محسوبة تماما, والسيناريوهات معدة سابقا، ومعلومة النتائج؟
هناك من يردد هذه الأيام مقولة أن وراء هذا العداء الأميركي, نجاح ثورة 30 يونيو المصرية في إفشال المخطط الذي رسمته الادارة الاميركية لمسار الربيع العربي, لكن أي فشل بعد أن تم تحطيم جيش عربي كبير في سوريا، وتمزيق جسد كان راسخا على مدار التاريخ؟ وأي فشل أكبر من هذا، بينما تتهدد عدد من الدول التي شهدت موجات ما يسمى بالربيع العربي, توابع ذلك الزلزال, تفتيتا وانقساما وتناحرا؟
كانت تلك الثورات في بدايتها حلما رائعا للانعتاق من أنظمة بغيضة, أهانت شعوبها, لم يكن الاخوان هم الذين أنقذوا الشعوب الثائرة من معاناتها؟ لكنهم فجأة راحوا يحصدون ثمار ما ضحي غيرهم لأجله, ثم مارسوا أشد درجات الاقصاء للآخرين, فهل كان المطلوب من الشعوب التي عادت لتثور, أن ترضى بتلك النتيجة؟ وهل كانت تلك هي النماذج التي تراها الولايات المتحدة للتحولات الديمقراطية؟ فبأي منطق يكون رهان أميركا على الاخوان إن كانت الممارسة الديمقراطية هي المعيار الأميركي؟ ولماذا في الأصل تضع الولايات المتحدة نفسها دائما في مواجهة تطلعات الشعوب العربية؟
هذه الشعوب التي تتطلع من سنة الى أخرى , ونتظر بلهفة صعود رئيس جديد للولايات المتحدة , تغالي في توقعاتها , تظن أن القادم سوف يأتي لينصف قضاياها, أن لا يعادي العرب وينحاز بالكامل نحو اسرائيل, لكنها سرعان ما تكتشف انها كانت تعيش وهما كبيرا, تخرج منه لتنتظر خروج الرئيس هذا ووصول الرئيس الجديد, ثم تعاود الكرة في ضخ الأمل وحصاد الاحباط.
يبدو أن هذا هو قدرنا مع أميركا, ويبدو أن بعض قادتنا كانوا صَادقين ndash; الرغم من حبل الأكاذيب الطويل- حين أدركوا بعد فوات الآوان، إن من يستتر بأردية الأميركان ... يظل quot; عرياناquot;.
======