عقب وصوله الى الحكم، تلقى الرئيس المصري محمد مرسي رسالة من الزعيم التاريخي لجنوب افريقيا نيلسون مانديلا، قدم له فيها أربع نصائح، أولها أن يعمل خلال فترة حكمه على تحقيق اجماع وطني، وثانيها أن يتوجه إلى قوى الثورة الحقيقية وأن يعتمد عليها، والنصيحة الثالثة أن يسعى إلى احتواء قوى النظام القديم، أما النصيحة الأخيرة فأكدت على ضرورة تصحيح البدايات.
هذه الرسالة تعود الآن لتطرح نفسها بقوة ، بينما تموج الساحتين المصرية والجنوب افريقية بحدثين كبيرين، يستقطبان اهتماما عالميا واسعا، سواء ما يتعلق بتظاهرات الثلاثين من يونيو في مصر، أو متابعة الحالة المرضية للقائد الافريقي الكبير الذي قضي في سجون نظام الفصل العنصري نحو ٢٨ عاما، لكنه فور أن نال حريته وخاض الانتخابات الرئاسية ليحقق فيها فوزا كاسحا، كان أول القرارات التي اتخذها تتمثل في تشكيل لجنة للمصارحة والمصالحة برئاسة القس ديزموند توتو، من أجل غاية مهمة هي تضميد الجراح التي ظلت تنزف لسنوات طويلة في بلاده
من المؤكد أنه لا يوجد وجه للمقارنة بين ما حدث في جنوب افريقيا بعد وصول مانديلا للحكم، بعد سنوات سجنه ومعاناة بني بشرته من أبناء البلاد الحقيقيين، وما جرى في مصر بعد سنة واحدة من وصول الاخوان إلي الحكم بعد انتظار طال نحو ٨٠ سنة.
هناك كان مانديلا حريصا على اتمام مصالحة تاريخية بين السود والبيض، ظل خلالها يؤكد على أهمية التسامح وضرورة التعايش ونسيان جراحات الماضي ومراراته، بل واغلاق هذه الصفحة تماما، وفتح أخرى جديدة، وكان أن اختار عقب صعوده نائبين، أحدهما الرئيس السابق دي كليرك من البيض، واخر من السود، أما في مصر فقد كان هناك اندفاع كاسح لتحقيق التمكين من كل مفاصل الدولة، واقصاء لكل الاطياف الأخري، وابعاد كل الذين شاركوا في الثورة على نظام مبارك وتهميش تيارات ضحى الكثيرون من المنتمين إليها بالارواح والدماء.
في جنوب افريقيا تمت الاستفادة من كل الكفاءات التي تنتمي الى الشعبين الاسود والابيض، فانطلقت تلك الدولة وحققت قفزات مذهلة في كافة المجالات، أما في مصر فتم اقصاء الكفاءات التي لم تكن منتمية الى جماعة الأهل والعشيرة، وجيء بالأقارب والأصهار ليتبوأوا المناصب وينالوا الحظوة.
صار المعيار هو الانتماء للجماعة ولدرجة النسب، وخرج من بين من تولوا قيادة مجلس الشورى من يدعو الى ضرورة ألا تتزوج الاخوانية بغير الاخواني، وبعد ما تم ابعاد الكفاءات، وانيط الامر لغير أهله، كان هذا الفشل الذريع الذي تحقق في خلال سنة واحدة، والذي سيقود الى كوارث مروعة لو استمر لوقت أطول.
لا مقارنة على الاطلاق. بين هذا الرجل يبكيه شعبه منذ أن سقط في شباك المرض، ذلك الزعيم التاريخي الذي بات لقبه بين البيض والسود الزعيم المبجل (ماديبا) ، وبين من يعاني شعبه من أزمات معيشية خانقة، وانفلات غير مسبوق في الحالة الامنية، بعد ان قدم لهم الوعود ووعد بتحقيقها خلال المئة يوم الأولي، ثم نصحهم كتاب انجازاته أن عليهم ان يفرحوا، فلأول مرة في تاريخ المصريين أصبح لديهم حاكما يصلي الفجر حاضرا.
لا مقارنة على الاطلاق، فهناك ارادة خرج صاحبها من سجنه الطويل ليمد اليد حتى لمن ألقوا به طيلة ثلاثة عقود في جحيم الظلام، ثم انطلق بأفكار وسواعد الجميع ليبني وطنا يعيش فيه الاعداء السابقين في وئام، من مارس منهم من الفصل العنصري، ومن عانى منها، من تم احتقاره بسبب لونه، ومن استغل السود ونبذهم وأهانهم، خرج مانديلا من سجنه، وخرج السود من عزلتهم، واطمأن البيض الى ان الاعتذار عن الماضي تكفي لبدء صفحة جديدة، وان الوطن في النهاية ينبغي ان يتسع لجميع مكوناته.
هذا ما جرى في التجربة الرائعة لجنوب افريقيا، فما الذي جرى في تجربة مصر التي لا تتكون من شعبين كبلاد مانديلا، غير الاقصاء والابعاد وتقريب الاقارب والعشيرة؟ فهل كانت الجماعة الحاكمة تتصور ان هذا الامر سيكون مقبولا؟ ألم تع قيادات الجماعة ان وصول الرئيس الى الحكم تم بفارق قليل من أصوات الناخبين؟ ما الذي منعها من اجراء استطلاع للرأى كي تدرك مدي انحدار شعبيتها في الشارع؟ ذلك الانحدار الذي شخصه البلتاجي احد قيادييها في حديثه قبل ايام على شاشة الجزيرة مصر، حين قال: ان الناس تنظر شذرا للاخواني حين تراه في وسائل المواصلات وترميه بألفاظ جارحة.
الى هذا الحد، تحولت تلك نظرة الناس الى تلك الجماعة، بعدما تعاطفوا معها في عام ٢٠٠٥ ومنحوها نحو ربع مقاعد البرلمان، على الرغم من قبضة نظام مبارك، .. لتتحول الامور الان الى مسار مغاير. ولعل هذا التغير هو نتجة حتمية لسلوك اقصائي واستخدام لغة عدائية، واطلاق وعود لم يتحقق منها شيء على ارض الواقع.
هذا ما فعلته تلك الجماعة بنفسها، حين سارعت بالقاء جسدها في اتون الحكم دون أن تملك الحد الادني الذي يجب أن يتوفر لمن يريد التصدي لادارة دولة بحجم مصر، اندفعت سريعا، لتسقط سريعا، لانها لم تقرأ تجارب التاريخ جيدا، وعلى وجه الخصوص، تجربة مانديلا، ذلك الرجل الحكيم.