لم يكن الأميركان صادقين ولا دقيقين في تبريراتهم للاعتماد على الطائفيين المتزعمين للشيعة، وعلى العنصريين التوسعيين متزعمي الأكراد، فقد كانت هناك الكثير من النخب المثقفة الوطنية والمخلصة من الشيعة والسنة والأكراد والتركمان والمسيحيين، والمندائيين والأزيديين والشبك وغيرهم؛ تريد المساهمة في بناء العهد الجديد،على أسس وطنية وصنع عراق مزدهر حر يستحقه العراقيون بعد معاناتهم الطويلة والمريرة مع أنظمة الحكم الجائرة التي تعاقبت عليها لزمن طويل!

&
لقد جاء الأميركان ومعهم مجلس خبراء كبير، مكون من حوالي (150 ) عضوا، سمي "بمجلس إعادة إعمار العرق" كلهم من العراقيين رجالا ونساء ومن مختلف الاختصاصات، وقد أتوا بعد سنوات طويلة من معاناتهم في المنافي المختلفة واختزانهم للخبرات والتجارب، وحصول الكثيرين منهم على شهادات عالية،من أجل الاستفادة منها في بناء وطنهم، وتضميد جراحات شعبهم،وقد توزعوا العمل على جميع وزارات الدولة وإدارات المحافظات، في محاولة لتداركها والحيلولة دون انهيارها وسقوطها.
&
وقد تنبه مجلسهم ومنذ الأشهر. الأولى للعهد الجديد إلى تلازم الإرهاب والفساد فحاول التصدي لهما معا بشتى الفعاليات والاجراءات وبنفس وطني واضح فتعرض بعض أعضائه للاغتيال ومحاولات الاغتيال، وللكثير من المضايقات والظروف الصعبة. ودون أن تكون تحت تصرف المجلس أية أموال أو أرصدة خاصة به.
&
لكن المتزعمين الطائفيين الشيعة، والعنصريين الأكراد؛ ضاقوا به ذرعا،وناصبوه العداء خائفين أن يتحول إلى حكومة تكنوقراط أو مستشارين فاعلين يلتزم الأميركان أو الحكومات التي ستنبثق لاحقا بالاستماع إلى مشورتهم ونصائحهم! أو أن يحس الشعب بوجود هذا المجلس ونشاطه فيتحول إلى حزب سياسي كبير يتجمع حوله التكنوقراط والمثقفون وكل من يعمل بروح علمانية وغير طائفية أو عنصرية.
&
نزل الأميركان عند رغبات الطائفيين والعنصريين الأكراد فعطلوه، ووضعوه جانبا، وعتموا عليه، وكأنهم قد أتوا به فقط لذر الرماد في العيون،أو إنهم أرادوه واجهة يمررون من ورائها صفقاتهم مع هذه الجهة أو تلك،وهذا ما سيكشف التاريخ عنه في مدى غير بعيد!
&
لقد حل هذا المجلس دون أن يحقق سوى الجانب اليسير مما جاء من أجله! وصار الحكم كله بيد الطغمة الطائفية العنصرية لا رقيب ولا حسيب عليها، أما الضمائر فقد منحت إجازة مفتوحة حتى يوم يبعثون!
&
وبعد أن انسحب الأميركان،وصاروا خارج نطاق المحاسبة،وفات أوان أشياء كثيرة، طفقوا يتحدثون وفي أميركا نفسها عن اختفاء عشرات وربما مئات مليارات الدولارات تحت نظر ومخالب صقور الإدارة الأمريكية كانت مخصصة لإعادة إعمار العراق! ترى أين ذهبت؟ لماذا لم تكن تحت تصرف مجلس إعادة إعمار العراق وهي أموال عراقية؟ لا أحدا يتحدث عن ذلك حتى الآن!
&
اليوم والعراق في عوز مالي شديد والدولة على حافة الإفلاس، وفي حومة جهد عسكري لا متناه، لماذا لا يطالب أميركا بها؟ لماذا لا يفتح ملفها الهائل الخطير؟ هل ستضيع هذه الأموال كما ضاعت أمواله في لبنان،وغيرها؟ بل لماذا لا يفتح ملف من وضع يده لأول مرة بعد سقوط النظام على أموال وثروات العراق وسربها عبر كردستان وإيران كأكبر عمليات النهب واللصوصية في تاريخ البشرية؟
&
ثمة أجيال شابة جديدة من مختلف الطوائف والقوميات بدأت تتفتح ولديها توق للعمل للانخراط في أجهزة الدولة الجديدة ومنظمات المجتمع المدني بعيدا عن التيارات الدينية الطائفية، لكنها أهملت وتركت لينساق الكثير منها مع الهوس الديني والطائفي والقومي. هل يجهل الأميركان ان البطالة والعوز وتردي الأوضاع الاقتصادية والخدمية هي أحد أسباب خضوع الشباب للتأثيرات الإرهابية؟
&
كان الأميركان مطمئنين أن الأكثرية الشيعة، ومتزعمي الأكراد معهم ثم ليذهب الآخرون إلى الجحيم! كاد بوش أن يتخذ قرار في عدم إشراك السنة أصلا في الحكم، ليبقيهم في المعارضة، ( فهو في ذهنه الضيق أن من الممكن نشوء معارضات طائفية لا سياسية) لكنه أمام مطالبات حكام دول السنة العرب وتركيا؛ قبل على مضض بدعوتهم للمشاركة،فأقنع متزعمي الأحزاب الطائفية والكردية العنصرية بذلك وقبلوا بذلك مرغمين،وأعطوهم من فتات موائدهم، وجعلوهم كالأيتام على موائد اللئام!
&
ولكن الكثيرين من متزعمي السنة لا يقلون طائفية وفساد وهزالا عن متزعمي الشيعة والأكراد، فهم بدلا من ينادوا بالوطنية كقيمة عليا لا مساومة عليها؛ حشروا أنفسهم في لعبة الطائفية، فاستلموا فتات موائد اللئام، وكانت كبيرة بحكم أن موارد العراق كانت ضخمة جدا وهرعوا بها إلى عمان وبيروت والقاهرة وأبو ظبي وفتحوا بها مكاتب لبيع المقاولات والمناصب وشراء الذمم وقضاء ليال حمراء في الملاهي وفنادق النجوم يكرعون فيها الويسكي، يعاشرون الغانيات ويغازلون فيها عصابات
&
الدواعش ويفتحون بنفوذهم أبواب بغداد لأنشطتهم الإرهابية: بذلك تعاون الفاسدون من السنة والشيعة والأكراد على قتل الفقراء من الشيعة والسنة والأكراد!
&
أي عراق يرتجى على أيدي هؤلاء؟
&
بنفس الوقت مضى متزعمو الشيعة في احتكار السلطة واختيار الفاسدين أمثالهم من السنة والأكراد غير مدركين انهم بذلك سيتحملون حتى نتائج أعمال وذنوب الجهات الأخرى مضافة إلى ذنوبهم وأخطائهم، ماذا فعل المالكي غير ذلك؟ فصار هناك من يسمون بسنة المالكي؟!
&
من المؤسف أن كل ذلك وجد له بشكل أو بآخر غطاء دينيا وروحيا! ومنذ البدء!
&
كنت أسمع من مثقف قريب لأحد متزعمي الشيعة الكبار، إنه حدثه مفاخرا كيف أن بوش إذا عرض عليه مستشاروه قرارا يتعلق بالعراق للتوقيع عليه، يسأل أولاً
&
ــ ما رأي السيد السيستاني به؟
&
فإذا قالوا له إنهم لم يعرفوا رأيه به، أو أنهم عرضوه عليه، ولم يوافق عليه، كان بوش يرد القرار لمستشاريه قائلا :
&
ـ لا تأتوا لي بالقرار حتى يوافق عليه السيد السيستاني!
&
هكذا كان بوش متطابقا مع المرجعية الشيعية في النجف! ويرى في فتاواها ومواقفها بديلا عن القاعدة الوطنية الحقيقية والصلبة لحكم العراق، كيف لا ينحدر البلد إلى الفساد والإرهاب، ومزاج الطوائف والدواعش؟!
&
كل هذا يحدث ولا ينفك كثيرون يرددون،عن جهل أو تجاهل، وتعصب أعمى أن مرجعيتهم لا تتدخل في السياسة، وإنها صمام الأمان في العراق في حين تكشف
&
الوقائع على مدى العقد الأخير إنها اكثر المرجعيات الدينية في العالم تورطا في الحياة السياسية،وغوصا في تفاصيلها،بينما هي مهمتها روحية وعبادية بحتة! ولأحد عشر عاما مضت، والعراق يفتقد الأمان، والدماء تتفجر في الشوارع،والفساد ينخر الأبدان والنفوس، فعن أي صمام أمان يتحدثون؟
&
لكن أوباما وزعماء آخرون في واشنطن وفي أوربا يتحدثون اليوم عن خيبة أملهم بمتزعمي الشيعة فهم بسياساتهم الإستئثارية والمستبدة، الفاسدة والمفسدة ( والإفساد اشد فتكا من الفساد وكان المالكي أستاذا ماهرا في الإفساد، ومن هواة جمع ملفات الفاسدين لاستعمالها لأغراضه الخاصة) أوصلوا الطائفة الأخرى (والتي كانوا يتلذذون بتسميتها بالأقلية) إلى حال من الإحباط والقنوط، جعل شرائح كبيرة منها تستقبل الدواعش بالأحضان، أو حتى تستنبتهم! وثمة من صار في المحافل الأمريكية يقول أن متزعمي الشيعة لم ينالوا محاسبة كافية من الغرب، ولم يعاقبوا سياسيا من جانبهم بما يكفي، وثمة اتجاهات تتحدث على ضرورة استبعادهم نهائيا والتعويل على العلمانيين واللبراليين والمثقفين الأحرار من الشيعة والسنة والطوائف الأخرى!
&
رغم ان هذه مجرد أوهام وتمنيات وأقاويل للاستهلاك العام،وإن ما يجري تحت الطاولات هو أكثر مما يجري فوقها لكنها مع ذلك جعلت رجال الحكم الحاليين في بغداد في خوف وقلق من تبدل الأفلاك والموازين وصاروا مرتابين من حملة أوباما العالمية ضد الإرهاب فسارعوا للتنسيق مع إيران ومع بشار الأسد حولها كأنهم يريدون تكوين حلفهم المضاد لها! وقد تحدث العبادي رئيس الوزراء علنا ولأول مرة : أنهم ينسقون مع مستشارين أميركان وبريطانيين وإيرانيين حول داعش،ولم يعد سرا ان قاسمي سليماني صار يقيم في قصر بالمنطقة الخضراء لينسق معهم يوما بيوم وساعة بساعة، ويبدو إن أميركا كعادتها ستلعبها بازدواجية خطرة فهي في الوقت الذي تحدثت عن عدم استعدادها للتنسيق مع إيران أو بشار لكنها تقوم بذلك عبر رجال إيران وبشار في بغداد!
&
لقد أجرى بوش العملية الجراحية الرهيبة بإبدال صمامات قلب العراق، بالسرعة التي يقوم بها بحلاقة ذقنه، وبالاستهتار الذي لا يخلو من استعلاء عرقي، وتعصب ديني! وبخضوع مهين للوبي الصهيوني، فصار اليوم وعلى مدى عقود لاحقة على أي رئيس في البيت الأبيض أن لا يجد الوقت لحلاقة ذهنه وهو يلاحق الإرهاب الذي صار ينبت كالفطر السام في كل غابات العالم، ولكن المصيبة أن أوباما وأمثاله ليسوا اكثر ذكاء من بوش، ولا أقل سوءا منه!
&