تتصاعد وتيرة الطلبات لإنشاء أقاليم منذ سقوط النظام السابق، فإنطلقت أولى الدعوات لإقامة إقليم الجنوب أول الأمر من قبل المجلس الأعلى ثم دعوات لإقليم أخر في الأنبار أو إقليم سني يجمع عدد من المحافظات التي يغلب عليها طابع مذهبي واحد، وفي كل هذه المرات لم يكن للمواطن البسيط صوت أو رأي أوحتى معرفة فيما إذا كان ذلك سيصب في مصلحته أم لا؟ بل إن مفهوم "الفيدرالية" في الدستور وضع دون إجراء إستبيان للمواطنين العراقيين لمعرفة مدى قبولهم أو رفضهم له، وما جرى هو إستجابة لطلبات بعض القوى الكردية وإصرارها على وضعه في الدستور كي لا يكون إقليم كردستان عرضة للتغيرات السياسية في بغداد، وإستجابت باقي القوى السياسية العراقية لهذا المطلب أملا منها في أن ذلك سيطمئن الأكراد ويعزز بقاءهم في عراق متحد، كما ضغطت الولايات المتحدة لتبنيه كضرورة للإنتقال من النظام المركزي الى نظام لا مركزي في إدارة البلد.

أخر هذه الدعوات ما يجري الحديث عنه هذه الايام من قبل بعض الأطراف حول تبني مشروع إقامة "إقليم البصرة" وخاصة من قبل النائب "محمد الطائي" الذي أكن له إحتراما كبيرا، لكن يبدو إنه خضع-إسوة بغيره من السياسيين- لتأثير الماكنة الإعلامية الكبيرة التي شظت المجتمع العراقي الى مجموعات إثنية، قومية وطائفية، وتسعى لتشظيته "مناطقيا" عبر"التمثيل المناطقي" للنواب والتركيز على "منطقة النائب" دون وعي إن ذلك يعني سلب حق النائب بالتحدث في الشأن "الوطني" وحصرإهتمامه-خلافا لواجبه الدستوري- بالتحدث والمطالبة ب"حقوق" ابناء محافظته فقط، مبررا ذلك بأن هؤلاء هم من إنتخبوه وبالتالي يجب أن يطرح ما يريدون هم طرحه، وفي هذا الباب ثمة عدة مغالطات مرت على البعض مرور الكرام دون مجرد وقفة لإعادة النظرمنها:

كانت طريقة "الدوائر المتعددة" في إنتخابات أعضاء مجلس النواب طريقة لمواطني المحافظات كافة تهدف لإنتخاب اشخاص معروفين من قبل من ينتخبهم، لتجنب إنتخاب أشخاص لمجرد إنهم ينتمون لهذا الحزب أو ذاك كما حصل بإنتخابات 2005، وليس ليطالب النائب بمطالب خاصة بالمحافظة التي أتى منها فقط، فهو بحصوله على عضوية مجلس النواب أصبح ممثلا لكل العراقيين من البصرة الى زاخو، شاءت القوى السياسية ذلك أم ابت، عرف النائب ذلك أم جهله.

هذا الفهم لدور النائب وحصره فقط بما يتعلق بمحافظته وراء تلكؤ مجلس النواب بإقرار القوانين ذات الطابع الوطني الشامل لعدم وجود نواب يدفعون بإتجاه إقرار قوانين لا تتعلق بمحافظاتهم، فنلاحظ مثلا عدم وجود نواب من إقليم كردستان يدفعون بإتجاه قوانين تصب في تحسين قطاع التعليم أو الصحة أو الخدمات في العراق لأنهم يعالجون هذه المواضيع في "منطقة نوابهم" كردستان عبر حكومة الإقليم وهم بالتالي غير معنيين بما يجري بباقي العراق في هذه المجالات وربما غيرها ايضا.

رسخت تجربة "كردستان" أسس خاطئة لممارسة النظام الفيدرالي أوهمت البعض بإمكانية ممارستها من قبلهم لمجرد إقامة أقاليمهم، مثل وجود جيش مستقل عن المركز، ومالية مستقلة، وحتى تمثيل خارجي مستقل بتعارض تام مع ابسط مباديء الأنظمة الفيدرالية في العالم حيث الدفاع والمالية والخارجية من إختصاصات السلطات الإتحادية حصرا، وبذلك اساءت القوى الكردستانية المتنفذة لمفهوم "الفيدرالية" عبرالمطالبة بالمزيد من المكتسبات على حساب باقي العراق سعيا لإستقلال كردستان عن المركز وليس سعيا لوحدة العراق وإنجاح نظامه الفيدرالي.

لم يكن دعاة الأقاليم السابقين من أولئك الذين عرفوا بعملهم وسعيهم الدؤوب في سبيل مواطنيهم بل إن أغلبهم واجه رفضا شعبيا كبيرا في المحافظات التي يدعون تمثيلها، ووجود تحدي سياسي كبير لهم في محافظاتهم متمثلا بكيانات سياسية ترفض إعتبارهم ممثلا لهذه المحافظة أو تلك أو هذه الطائفة أو تلك.

وبالعودة الى لب الموضوع والدعوات المتصاعدة لإقامة إقليم البصرة فالدستور يعطي الحق للمحافظات في إقامة إقليم في مادته التاسعة عشرة بعد المئة التي تنص على "يحق لكل محافظةٍ او اكثر، تكوين اقليمٍ بناءاً على طلبٍ بالاستفتاء عليه، يقدم بأحدى طريقتين:"اولاً : طلبٍ من ثلث الاعضاء في كل مجلسٍ من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الاقليم" والسؤال هنا لماذا لم يلجأ المطالبون بإقليم البصرة الى تقديم هذا الطلب بهذه الصيغة؟ هل صعب عليهم الحصول على ثلث أصوات أعضاء مجلس المحافظة؟ إذا كان ذلك صحيحا الا يمثل ذلك رفضا للمشروع برمته؟ لماذا إختار دعاة إقليم البصرة اللجوء الى الفقرة (ثانيا) من نفس المادة التي نصها:"طلبٍ من عُشر الناخبين في كل محافظةٍ من المحافظات التي تروم تكوين الاقليم" ماذا يعني ذلك؟

أجدني متحيرا في إجابة السؤال التالي ايضا، الذي ربما يستطيع أحد دعاة هذا المشروع إجابتي عنه، الذي هو: ما الذي سيجنيه مواطن البصرة من إقامة الإقليم، وهو الذي شهد طوال السنوات السابقة عجز إدارة حكومته المحلية عن إنفاق تخصيصات محافظة البصرة بعد 2003وإعادتها الى خزينة الدولة كل عام؟ هل بإعلان "البصرة إقليما" ستنفق الأموال بطريقة أخرى تخفف من عبء المواطن البصري؟ أم إن كل ما سيجري هو تكوين مجلس نواب ومجلس وزراء ورئيس وزراء ونوابه ورئيس إقليم ونوابه برواتب ومخصصات وحمايات ستكون عبئا مضافا على ابناء البصرة؟ وسيكون هؤلاء جميعهم من نفس هؤلاء الذي عجزوا في السنوات السابقة عن إنفاق تخصيصات المحافظة من الموازنة العامة، لكن في هذه المرة ستقل الأموال التي تعود الى خزينة الدولة، ليس بسبب المشاريع التي ستنجزها حكومة "إقليم البصرة" بل لأنها ذهبت رواتب ومخصصات ل"الرئاسات الثلاث" في "إقليم البصرة".

&